لاختيار واشنطن منطقة البوكمال على الحدود بين سورية والعراق مسرحاً للمواجهة مع طهران دلالة أخرى غير ميدانية هذه المرة. فقصة طهران مع الحدود، أي حدود، تنطوي على ممارسة لا تقيم وزناً للكيانات المتشكلة في مرحلة الخروج من الحقبة الاستعمارية. والوعي الإيراني المتشكل في ظل دولة ولاية الفقيه، ومنذ اليوم الأول له، أي بعد سقوط الشاه مباشرة، اعتبر أن الحدود ليست عائقاً قانونياً أو اجتماعياً لمد نفوذه. والخطوة الأولى في حينها كانت إرسال وحدات من الحرس الثوري الإيراني إلى لبنان، والمباشرة في بناء مساحة نفوذ فيه.
في سورية اليوم، لطهران طموحات حدودية جلية. هي تمسك بالحدود اللبنانية - السورية، وتسعى إلى فتح الحدود بين العراق وسورية، ولها أيضاً على الحدود بين سورية وإسرائيل حضور تقطعه الغارات الإسرائيلية المتواصلة على مواقع «حزب الله» هناك. أما الأردن فقد بدأ يشعر بأن طهران تقترب من حدوده مع جنوب سورية.
تركيا ليست دولة ناجية، فطهران حجزت نفوذاً على حدودها مع دمشق عبر علاقتها مع حزب العمال الكردستاني. وإذا كان هذا النفوذ غير مباشر، إلا أن مواظبة طهران على شق الطريق من الموصل إلى الرقة تؤشر إلى أن ما ليس مباشراً سيصبح مباشراً. والحال أن اختيار طهران الحدود بصفتها مسرحاً للعب بالكيانات لم يتم على نحو عشوائي أو أيديولوجي، إنما لإدراكها أن هذه الحدود هي من المساحات الرخوة لهذه الكيانات، فالجماعات على طرفي هذه الحدود تملك قابليات كبيرة لإعادة التموضع في خرائط سياسية وديموغرافية جديدة. وهنا تماماً تكمن أخطار الطموحات الإيرانية، وضعف حساسية طهران حيال السيادات «الوطنية» المتشكلة في الحقبة الاستعمارية.
محافظة دير الزور السورية تربط عشائرها بالعمق العراقي علاقات عاطفية ورحمية واقتصادية تفوق علاقاتها بالعمق السوري الطارئ. الحدود اللبنانية- السورية بدورها لم تكن يوماً حدوداً ثابتة، وهي مخترقة ببؤر نفوذ مذهبي كشفت عنها معارك القلمون في السنوات الفائتة. الحدود بين سورية وإسرائيل ملتبسة ومخترقة باحتلال إسرائيلي للجولان، وبعلاقات عابرة للحدود تقيمها الجماعات الأهلية هناك. أما الحدود مع الأردن فهي الأكثر وضوحاً لجهة الامتدادات العشائرية التي تخترقها. ويُشكل الأكراد في مناطق الحدود مع تركيا خاصرة رخوة لمفهوم السيادة الوطنية على طرفيها السوري والتركي. ناهيك بلواء الإسكندرون السليب تارة والمشطوب عن خريطة سورية البعثية تارة أخرى.
الدول أبقت جماعاتها الحدودية خارج طموحاتها «الوطنية»، والاستبداد الذي كان الأداة الرئيسة لهذه الوطنيات الجامحة والناقصة، ترك للجماعات الحدودية منافذ علاقات أوهنت صلتها بالمركز المستحدث. واليوم جاءت طهران لتستثمر هنا.
مساعٍ لإعادة وصل عشائر دير الزور بعمقها العراقي عبر جهود «تشييعها» من جهة وعبر محاكاة نموذج الحشد العراقي بحشد عشائري سوري موازٍ. أما الحدود مع لبنان، فالمهمة فيها أسهل، ذاك أن اهتراء الدولة على طرفيها تاريخي، والميليشيات التي تمسك بها لا تخفي طموحاتها في تبديد السيادة على مذبح السيد الإيراني. وعلى رغم الأخطار الكبرى المتولدة عن اقتراب طهران إلى الحدود السورية مع إسرائيل، إلا أن ذلك لم يثن طهران عن المواظبة على تأسيس نفوذ هناك. واليوم انضم الأردن إلى دائرة المخاوف على الحدود، فاختلطت عند حدود المملكة طموحات «داعش» في التقدم من بادية الشام، بطموحات طهران بالاقتراب من هذه الحدود عبر مدينة درعا، وانعقد على أثر ذلك مشهد شديد التعقيد في جنوب سورية.
طهران اختارت المساحات الرخوة في هذه الكيانات، وهي فعلت ذلك لأسباب شديدة البراغماتية والواقعية، إلا أن البعد الأيديولوجي ليس بعيداً عن هذه الخيارات. فالحدود في الوعي الإيراني ليست نهائية، وإعادة صياغة العلاقات الدولتية بين الجماعات لن ترتد على سيادة طهران على أرضها. فتح الحدود السورية- العراقية مغامرة ستصيب الجماعات الأهلية في كلا البلدين، لكن ارتداداتها ستكون خارج ايران بالتأكيد. والمغامرة بمصائر المجموعات الشيعية في هذه الدول لن تدفع طهران فاتورته، والانتكاسة إذا ما أصابت الموقع الإيراني في هذه الدول ستبقى خارج الجغرافيا الإيرانية المباشرة.
المواجهة بين واشنطن وطهران لن تجرى على أرضٍ إيرانية. هذه الحقيقة تُحفز طهران على الذهاب أكثر في مغامراتها، فهي في النتيجة لا تغامر برصيد إيراني، والثمن ستدفعه جماعاتها المستتبعة في هذا الإقليم المستتبع. |