التاريخ: أيار ٢١, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
«حماس» بين لا حدود الديني وحدود الوطني - خالد الحروب
الحديث عن حركة «حماس» وسيروات التوتر والشد في داخلها لا بد أن يتطرق إلى لا حدود الدين وحدود الوطن منذ لحظة تأسيس الحركة. الأطروحة الأساسية هنا تقول إن «حماس» تنتمي تاريخياً وجوهرياً وفكرياً إلى تيارات الإسلام السياسي في شكل عام وإلى مدرسة «الإخوان المسلمين» على وجه التحديد، وتتمظهر في رؤيتها وأفكارها وسياساتها كثير، ولكن ليس كل ما يتمظهر في رؤية وأفكار وسياسات تلك التيارات. وإلى جانب التشابه والتشارك مع تلك التيارات تتمايز «حماس» عنها في عدد من الخصائص والاستجابات التي فرضها الواقع والسياق الفلسطيني الخاص، وفرضت عليها تبني رؤى وسياسات مختلفة. وإزاء فكرة الحدود القومية والوطنية أظهرت التيارات الإسلاموية وأهمها «الإخواني» والسلفي مقاربات متشككة ومترددة، وتنوعت هذه المقاربات من الرفض التام للحدود القومية وعدم الاعتراف بها، إلى القبول الخجول، وصولاً إلى الإقرار بها بحكم الأمر الواقع، مع الاحتفاظ بشعارات وأهداف طوباوية تطرح صوراً أممية إسلامية فضفاضة وغامضة. وعلى رغم انتماء «حماس» إلى هذا التيار ومع غموض أفكاره حول الحدود القومية فإن الحركة تطورت في شكل متسارع وحاولت إعادة تعريف نفسها من حركة إسلامية دينية ذات بعد وطني تحرري إلى حركة تحررية وطنية بمرجعية دينية. وقد تجسد هذا التطور المتسارع أخيراً في «وثيقة المبادئ والسياسات العامة» التي أصدرتها «حماس» وفيها أعلت من البعد الوطني على حساب الديني، من خلال التأكيد المُلفت على «الجغرافيا الفلسطينية» على حساب «التاريخية الدينية الفلسطينية»، ومن خلال التأكيد المُتجدد على تحديد نشاط وأهداف وغايات «حماس» ضمن هذه «الجغرافيا الوطنية» فقط. بكلمة أخرى، تطورت «حماس» ضمن سيرورة وطنية وكولونيالية ضاغطة وتحت اشتراطات الأمر الواقع ودخلت في عملية قومنة nationalization تدريجية انتهت بها إلى تقديم القومي بحدوده الوطنية على حساب الديني المُتجاوز للحدود الوطنية.

هذه السيرورة التي انخرطت فيها «حماس» خلال العقود الثلاثة الماضية يمكن القول إنها هي ذاتها التي أعادت تشكيل كثير من الحركات الإسلاموية ضمن سياقات وطنية ذات حدود جغرافية مُحددة، أيضاً بحكم الأمر الواقع وصلابة الحقيقة الجغراسياسية التي هي «الدولة الأمة». لكن في الحالة «الحمساوية» أضيف عامل المشروع الصهيوني الاحتلالي القائم على جغرافية فلسطين والذي سرع من انتقال «حماس» من عموميات لا حدود الدين إلى خصوصيات حدود الوطن.

منذ لحظات تأسيس الإسلامويات العربية سواء الفكرية (متمثلة بأفكار عبده، والأفغاني، والكواكبي، ورضا)، أو الحركية «الإخوانية» (متمثلة في أفكار البنا، وقطب، ومن تلاهم)، أو السلفية (في شعارات عبد الرحمن، ثم الظواهري، والمقدسي، وبن لادن، والبغدادي) شكلت فكرة «الوطنية» (أو القومية)، ذات الشعب المُحدد وتبعاً للنموذج الأوروبي الوافد للدولة الأمة، تحدياً كبيراً، وفي غالب الأحيان شكلاً مرفوضاً وبكونه يجزئ المُوحد المُتخيل، ويتضاد مع فكرة الوحدة والأمة الإسلامية أو على الأقل الأمة العربية. المدرسة الإخوانية على وجه التحديد، وهي مدرسة «حماس» الفكرية، طرحت شعارات أممية إسلامية وفي الوقت نفسه اشتغلت ضمن السياق الوطني للدول التي وُجدت فيها. وعلى رغم الشعار الإخواني القطبي بأن «جنسية المسلم عقيدته»، فقد تحول «الإخوان المسلمون» إلى إخوان مسلمين مصريين، وأردنيين، وسوريين، وعراقيين، وجزائريين، ويمنيين، وسعوديين، وفلسطينيين وغيرهم، وكل فرع من هؤلاء انشغل واستُنزف في الشأن الوطني. وعبر عقود من التسيس والتمايز في الشؤون الوطنية بين الدول تكرست الهويات «الوطنية» لهذه الفروع وتهمش عملياً البعد الأممي، وإن بقي يتصدر الشعارات ويتمسك بطوباويات الوحدة. كانت الاختبارات «الوطنية» المتتالية تؤكد واحداً تلو الآخر رسوخ «الحدود» والهوية الوطنية على حساب الإسلاموية لكل تنظيم من التنظيمات «الإخوانية». وربما كان الاختبار الأصعب والتفكيكي هو غزو صدام حسين للكويت عام 1990 وردود فعل تلك التنظيمات المختلفة تماماً والتي تناسق رد فعل كل تنظيم منها مع رد الفعل الشعبي أو الحكومي في «دولته الوطنية». وهكذا وبعيداً عن الشعاراتية الأممية ورطانتها في رفض الحدود والتجزئة وسوى ذلك، خضعت كل حركة إخوانية إلى اشتراطات الواقع واندمجت في سيرورة إعادة تشكيل وطني بالغة الوطأة، انتهت إلى تماهي هذه الحركات في سياقاتها الوطنية، وتمايزها حتى شقيقاتها في الدول المجاورة إزاء القضايا والتحديات وحتى التنافسات الكبيرة بين الدول. مثلاً، وإزاء قضية الصحراء الغربية والخلاف بين المغرب والجزائر، لم تختلف مواقف إسلاميي الجزائر والمغرب (الإخوانيين أو القريبين من مدرسة الإخوان السياسية والفكرية) من المواقف الرسمية والمزاج الشعبي في البلدين، بما يدلل على السطوة والوطأة المتصاعدة للسياق الوطني «الحدودي» في تشكيل رؤى هذه التنظيمات.

في هذا السياق الوطني الضاغط تسارع انتقال «حماس» من «لا حدودية الدين» إلى «حدود وجغرافية الوطن»، خصوصاً في ظل التحدي الصهيوني الذي استهدف فلسطين أرضاً وجغرافيا وأرادها «وطناً قومياً لليهود. وتسارع إدراك «حماس»، أو جزء مهم منها، إزاء خطورة تعميمات الخطاب الإسلاموي حول الوحدة الإسلامية وعدم ضرورة الانتماء إلى كيانات قومية محددة، وبكونه يصب في مصلحة الخطاب الصهيوني. فهذا الخطاب كرر ويكرر دائماً مقولة أن فلسطين كـ «وطن قومي» للفلسطينيين لم يكن أبداً، وأن «الشعب الفلسطيني» شعب مختلق أساساً، وأن السكان الذين وجدوا في فلسطين قبل قيام إسرائيل هم عرب وليست لهم هوية «فلسطينية»، وأكثر ما يمكن قوله هو أنهم جزء من سورية الكبرى. ومعنى ذلك فإنه بإمكان هؤلاء السكان الانتقال إلى أجزاء أخرى من سورية الكبرى أو العالم العربي الشاسع وعدم منافسة اليهود في «وطنهم القومي». على ذلك بدا أن خطاب «الوحدة» الإسلامي أو العربي الذي يُماهي الفلسطينيين مع العرب والمسلمين بكل عمومياته وسمته الفضفاضة يخدم الادعاءات الصهيونية في المقام الأول.

إضافة إلى ذلك لعب ضغط الواقع التحرري الوطني الفلسطيني والقوى السياسية والعسكرية المنافسة في الساحة الفلسطينية في تسريع سيرورة «قومنة» و «وطننة» «حماس»، على قاعدة أن أساس الشرعية السياسية الفلسطينية الشعبية يأتي من مقاومة المشروع الصهيوني على أساس وطني. وتأكد لـ «الإخوان المسلمين» الفلسطينيين أن تلك المقاومة والانخراط الوطني فيها هو الذي منحهم الوجود الحقيقي في فلسطين بعد أن تحولوا إلى «حماس»، وانتقلوا إلى مربع المواجهة بعد عقود طويلة من الانزواء في برامج «الدعوة والأسلمة» الإخوانية التي تفادت مواجهة الاحتلال الإسرائيلي في عقود الخمسينات والستينات والسبعينات وصولاً إلى الانتفاضة الأولى عام 1987.

ساهم تكرس الهويات القومية في العالم العربي والإسلامي عموماً، وفي دوائر التيارات والتنظيمات الإسلاموية نفسها وانهماك كل منها بشؤونه «القطرية»، في إيجاد انعكاسات مباشرة على «حماس»، وتخفيض أسقف الطوباويات الوحدوية والشعاراتية الأولية. وتبدت تلك الشعارات الأممية بكون الكثير منها لا يحمل مضامين حقيقية. ليس هذا فحسب بل تم تبني تلك الأمميات من قبل التنظيمات الجهادية المتطرفة مثل «القاعدة» و «داعش» وأصبحت الخطاب المركزي والمؤسس لها، والرافض لأي حدود قومية. وهكذا شعرت «حماس» بضرورة محاولة التميز وأخذ مسافة واضحة عن الأمميات الإسلاموية وكوارثها وممارساتها.

ثمة أيضاً دوافع براغماتية واضحة خاصة بعد الربيع العربي ومآلات سياسات «الإخوان المسلمين» في أكثر من دولة والعداء الصريح الذي تصاعد بينهم وبين بعض الدول العربية. وهذا دفع «حماس» بوضوح لتنهي صلاتها التنظيمية بـ «الإخوان المسلمين» وتأكيد الاستقلال السياسي، تفادياً لتحمل أكلاف وعبء الانتماء لتنظيم «ما بعد دولتي»، له أعداؤه الكثر وخصوماته التي تعود على «حماس» بالضرر. وهكذا وبخلاف ما كان يركز عليه ميثاق «حماس» عام 1988 من أنها جناح «الإخوان» في فلسطين، فإن «وثيقة المبادئ والسياسات العامة»، تؤكد أن «حماس» حركة مقاومة فلسطينية تحررية إسلامية، ومن دون الإشارة إلى أي انتماء ما بعد «حدودي». على رغم أهمية النصوص الصادرة عن «حماس» أخيراً ومواقفها، يبقى الاختبار الحقيقي هو ترجمة هذه النصوص على الأرض، خصوصاً لجهة «فلسطنة» حماس تماماً وتقديمها الوطني المحدد على الديني المعمم، وتجسيده في العلاقات الوطنية البينية.
 

* كاتب وأكاديمي عربي