قبل نصف قرن وعقب هزيمة حزيران (يونيو) 67 ذهب ياسين الحافظ في «الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة» إلى أن جذر الهزيمة، بل هزائمنا كلها لا تكمن في تخلّف جيوشنا بل في تأخر فكرنا الأيديولوجي الذي يقبع في أساس تأخرنا السياسي والاجتماعي، وعجز هذا الفكر تالياً عن القبض على المشكلات العينية للمجتمع العربي، وعلى روافع تحديثه لجعله معاصراً للمجتمعات المتقدمة، وقادراً على محاورة العالم الحديث بمنطقه. وبكلمة كانت هزيمة حزيران اختباراً للثورات التي نصنع، وللأيديولوجيا التي توجهها وافتقارها إلى وعي كوني وتاريخي. عليه، رأى الحافظ أن شمس بدران وصدقي محمود ليسا أكثر تأخيراً من توفيق الحكم ومصطفى أمين وإحسان عبد القدوس وسيد قطب ويوسف السباعي، إذ إن أفكار هؤلاء وأمثالهم تكمن في جذر الهزيمة الطويلة التي نعيشها.
تحضر رؤية الحافظ في هذه الآونة مع انهيار الثورات العربية الراهنة وإخفاقها الذريع على رغم عدالة شعاراتها. فثمة أيديولوجيا عربية ملتبسة مرتبكة متناقضة طبعت الفكر العربي على مدى القرن العشرين، وبخاصة النصف الثاني منه ومطلع القرن الراهن، وهي التي أسست في رأينا لذينك الانهيار والإخفاق.
يتجلى التباس الأيديولوجيا وارتباكها وتناقضها في تعاملها مع مفاهيم الدولة والقومية والوحدة والديموقراطية والاشتراكية كما في تعاملها مع مفاهيم الغرب والحداثة والعلمانية والنخبة والجماهير، ويطاول الالتباس والارتباك والتناقض العلاقات القائمة أو المفترضة بين هذه المفاهيم وسبل تحققها وعوائق ذلك التحقق وأولوياته والقوى التي ستضطلع به. فهل الأمة العربية كيان قائم بفعل وحدة اللغة والثقافة والتاريخ والدين أم أنها مشروع للمستقبل ويفرض بإرادة الشعوب ونضالها؟ هل هي واحدة جرت تجزئتها أم أقطار يجب توحيدها، وفقاً لمحمد جابر الأنصاري؟ وهل تحقيق الوحدة رهن بالسوق الاقتصادية العربية على ما تصور الماركسيون أم رهن بتوحيد الثقافة وفق ساطع الحصري أم أن هذه الأمة «وحدة روحية ثقافية وجميع الفوارق بين أبنائها عرضية زائلة تزول بيقظة الوجدان العربي» وفق ميشيل عفلق؟ وهل تتحقق الوحدة بانقلاب جذري تقوم به النخبة، وفق عفلق والبيطار، أم أن «الوحدة ودولتها ستأتيان تتويجاً لانخراط العرب في الحداثة»، تبعاً لقسطنطين زريق؟
بعد كل هذه الالتباسات والتناقضات علق الفكر العربي المعاصر ولا يزال في شرك الأولويات والاشتراطات. فهل الوحدة تشترط الاشتراكية أو العكس؟ وهل الاشتراكية تمهد للوحدة أم أن الوحدة هي الطريق إلى الاشتراكية أم أن ثمة تلازماً بينهما، وبين الحرية؟ وأبعد من ذلك كله، ليس ثمة وحدة أو اشتراكية من دون علمانية، على ما رأى ياسين الحافظ، وليس من معنى للديموقراطية السياسية من غير ديموقراطية اقتصادية، كما يرى الشيوعيون.
لكن العلمانية هي الأخرى مفهوم إشكالي. فهل هي تعني المادية والإلحاد أم أنها تعني «العالمانية» أو «الدنيوية» التي لا تتنافى مع الدين والإيمان؟ هل هي الموقف الحر للروح أمام مشكلة المعرفة، وفقاً لمحمد أركون، أم أنها رمز للخيانة الحضارية، تبعاً لمحمد عمارة؟
وكذلك هي الديموقراطية. فهل هي حكم الشعب بقوانين يسنّها الشعب أم أن المرجعية الأخيرة للأحكام والقوانين تتجاوز الاختيار الشعبي والتشريعات المدنية؟
ولم يبدع العرب بعد قرنين من السجال تصوراً سوياً للتعامل مع الغرب. ماذا نأخذ منه وماذا نرفض؟ وكيف نتفاعل مع قيمه ومبادئه وأفكاره من دون أن نتنازل عن هويتنا وتراثنا؟ وهل ثمة استحالة في اندراج المجتمع العربي في سياق الحداثة نتيجة بنيته البطريركية حيث لا مكان لمفهوم العقد الاجتماعي وحرية المرأة، وفقاً لهشام شرابي، أو نتيجة بقاء العقلية القبلية حية في النفوس، وفقا للجابري، أو بفعل طغيان العقل الريفي والقيم البدوية، بحسب علي الوردي؟
هذه الإشكالات والتساؤلات ما هي في النهاية سوى مظاهر مأسوية لحداثة عربية عاثرة وقيد الدرس، فلم يتسنّ بعد للإنسان العربي أن ينجز مشروع حداثته بحيث يتخلص من أسر الإشكاليات التاريخية التي كبلته لينطلق في قضاء العقلانية النقدية الرحب ويبني مجتمعه الجديد.
هنا بالذات سر إخفاق الثورات العربية، فقد استندت إلى خلفية أيديولوجية هشة مهدت السبيل لفشلها وانهيارها، على الضد من ثورات الغرب التي أرست أسساً ثابتة ووطيدة لحداثته. فوراء اقتصاد الغرب، كما يقول قسطنطين زريق، ثورة صناعية حديثة، ومواهب إنسانية، وآلة حديثة. ووراء اقتصاد الغرب على الغرب وطريقته في التفكير والبحث عن الحقيقة. ووراء علم الغرب فلسفة الغرب. وهذا كله ما افتقدناه لتأسيس تحول جذري في حضارتنا المعاصرة، وهو ما قادنا ولا يزال من مأزق إلى مأزق ومن إخفاق إلى إخفاق، وهو ما أوصلنا إلى ثوراتنا المخفقة وربيعنا العربي الموؤود.
* كاتب لبناني |