تشهد الحروب الأهلية التي تعصف بدول المشرق صعود خطاب المظلوميات وانتـــشارها، وأصبحت لدينا مظلوميات علوية ومسيحية وكردية وشيعية وحتى سنية، مظلوميات بعدد الجماعات الممكنة وهي ليست بالقليلة عندنا.
يجب أن نفرق بين الظلم والمظلومية. تحيل المظلومية إلى حكاية تدور حول جماعة تتعرض للاضطهاد والظلم على أيدي جماعات أخرى معادية، ما قد يدفعها إلى الانعزال في مناطق وعرة أو الخروج من الحياة العامة. المظلومية تاريخ اضطهاد وأيضاً تاريخ هوية تُصان وتُحدد بالإحالة المنتظمة إلى تاريخ الاضطهاد، حيث الجماعة في حالة كفاح مستمر ضد الآخرين وتهديداتهم، لضمان استمرار وجودها. تساهم المظلومية في رسم الحدود الصلبة التي تفصل بين أبناء الجماعة والآخرين، مشكّلة ذاكرة جمعية عبر تواريخ الاضطهاد. المظلومية لا تكتفي ببيان الظلم، إنما تؤسس لـ «نحن» مقابل «هم». مظلومية العلويين مقابل السنّة، مثلاً.
في الدولة الوطنية قد يقع ظلم على جماعة من المواطنين لأسباب دينية أو اقتصادية أو اعتقادية منتهكاً المساواة المفترضة بين المواطنين. تسعى الدولة الوطنية، كما يُفترض، إلى رفع الظلم عن هذه المجموعة من مواطنيها، وهم بدورهم يخوضون نضالاً ضد ما يقع عليهم من ظلم، من دون أن يتحول هذا الظلم إلى مظلومية تؤسس لهوية خاصة ومتميزة لهذه الجماعة تشمل كامل مجالات حياتها وتضعها في مواجهة مع بقية المواطنين. المظلومية تناهض الدولة الوطنية، لأنها تُقيم التمييز بين الـ «نحن» والـ «هم» داخل الشعب نفسه، وليس باعتباره تمييزاً بين مواطني الدولة (الشعب) ومن ليسوا كذلك.
في المقابل فالنضال ضد الظلم لا يناهض فكرة الدولة الوطنية نفسها كونه يقوم على الانتماء إلى الشعب وتحقيق مبدأ المساواة الحقوقية للمواطنين. ترسُّخ خطاب المظلوميات ومدى تجذره في مجتمعاتنا يشير إلى ضعف الدولة الوطنية لا إلى قوتها.
إن نقد ومواجهة المظلومية لا يستند إلى تناقضها مع الدولة الوطنية فحسب، بل هناك أسباب أخرى تفرض الحاجة إلى مواجهة خطاب المظلومية.
- بما أن المظلومية تحيل إلى سردية وهوية، فمن غير الممكن فصلها عن المشروع السياسي الذي تستبطنه النخبة التي تتبنى خطابها. فالمظلومية القبطية، مثلاً، تمكّن الكنيسة القبطية من احتكار تمثيل الجماعة وبخاصة أمام الدولة، فتكون في القلب من الهوية القبطية، ما يخوّلها سلطة تحديد السلوك القويم المنتظر من كل قبطي بوصفه عضواً في الجماعة. عدم التمييز بين الظلم والمظلومية يعني عدم التميز بين الظلم الواقع على جماعة ما، والمشروع السياسي الذي تحمله نخبة تدعي الحديث باسم الجماعة، وهو بالضبط ما يريده هؤلاء، أي تغييب التمييز وتحويل الشيئين إلى شيء واحد، فيصبح الاعتراف بالظلم الواقع على الجماعة مطابقاً للاعتراف بالمظلومية وما يستتبعها من رهانات سياسية. وعليه يُغيَّب التعدد داخل الجماعة، ويُغيَّب الظلم الداخلي الذي يتعرض له المناوئون للسلطة التي تحمل خطاب المظلومية وتتماهى معه، بخاصة أن هؤلاء المناوئين سيُقدمون باعتبارهم خونة محتملين لمصلحة الجماعات الأخرى. المظلومية تحجب عنا رؤية الظلم داخل حدود الجماعة المظلومة نفسها.
- ترى المظلوميات العالم في حالة نزاع لا ينتهي، في حرب مستمرة بين الجماعات المحلية: مسيحيين مضطهَدين من المسلمين، حرباً ناصبية على شيعة آل البيت، مؤامرة رافضية على أهل السنة، اضطهاداً أبدياً للعلويين... ولأن المظلومية تثبت حدود الهوية للجماعة عبر رواية اضطهادها ونزاعها مع الآخرين، يصبح استمرار الصراع والنزاع ضرورياً لصون هوية الجماعة ودوامها. في المظلوميات يضطهد المسلمون المسيحيين، لأنهم مسلمون ولأنهم مسيحيون. يُذبح شيعة أهل البيت دوماً من النواصب، لأنهم شيعة آل البيت ولأنهم نواصب... فلا يمكن لهذا النزاع أن ينتهي من دون أن نتوقف عن كوننا مسيحيين أو عن كوننا مسلمين.
- السعي إلى تبرير سلوك أبناء هذه الجماعات بالمطالبة بأن نضع أنفسنا مكانهم، فننظر إلى العالم كما ينظرون إليه ومن على أرضية مظلوميتهم، سيؤدي إلى سلسلة سببية غير منتهية، تحيل إلى نزاع عمره ما يزيد على ألف عام من الاضطهاد وليس إلى ظلم محدد وواضح يحصل أمامنا، فتنتفي المسؤولية التي يتحملها الأشخاص عن سلوكهم الآن وهنا. تقدم الثورة السورية في أشهرها الأولى مثالاً ممتازاً، حيث رفع المنتفضون، السنّة في غالبيتهم الساحقة، شعارات الحرية والوحدة الوطنية. لكن مظلوميات الأقليات استعادت قصص الخطر السنّي على جماعتهم، فلم يصدقوا الآخرين ولم يعطوهم حتى فرصة إثبات صدقهم أو كذبهم، وتصرفوا على أساس مواجهة هذا الخطر الذي حفظته مظلوميتهم وتولت دائماً تذكيرهم به. النتيجة أن المظلومية تحولت نبوءةً ذاتية التحقق، إن بدأنا بالتصرف على أساس خبرة مظلومياتنا، فإن القصة التي تخبرنا بها المظلومية ستصبح واقعاً وحقيقةً. سبق لوفيق السامرائي، رئيس الاستخبارات العسكرية العراقية في عهد صدام والذي انشق عنه لاحقاً، أن برر مشاركته في قمع انتفاضة الجنوب بأنها كانت انتفاضة طائفية تستهدف العرب السنّة. يمكن اليوم العلويين أن يدعوا أنهم عرفوا منذ البداية طائفية الثورة السورية وتصرفوا على هذا الأساس، أليسوا محقين!
- لا ترى المظلومية البشر سواسية، بل ينقسمون إلى أبناء جماعتنا والآخرين. الضحايا الأبرياء دوماً من جماعتنا أما من يُقتل من الآخرين فليسوا سوى معتدين أو مشاريع معتدين، ما يجعل قتلهم مبرراً ومسوغاً. فلا يرى المسيحي من ضحايا سوى المسيحيين مثله، ولا يرى المسلم كذلك من ضحايا سوى المسلمين مثله. ولأننا لا نرى إلا ضحايانا، سيبدو العالم وكأنه يتآمر علينا، فهو لا يرانا نُقتل بينما ينتفض لمقتل غيرنا! احتجاج لطالما سمعناه. العالم الذي نراه عبر مظلوميتنا عالم حرب ومؤامرة علينا، وعليه فلا داعي لتحمل مسؤولية سلوكنا أو النظر في عيوبنا، فالآخرون سيبقون ضدنا مهما فعلنا، ومشكلتهم ليست مع ما نفعله بل مع وجودنا وهويتنا نفسها.
في عالم النزاع والاضطهاد الأبدي الذي تصوره المظلوميات، تصبح الأخيرة دعوة إلى حرب، إن كانت الجماعة التي تدعي المظلومية قادرة على شنها، أو الانحياز إلى نظام استبداد يقمع الجماعات الأخرى ويلجمها إذ لا تعتدي علينا.
المظلومية حرب أهلية مستدامة، أما التحرر من الظلم فيشترط ضمن ما يشترط التحرر أيضاً من المظلوميات. |