لا قيمة لبنانية لما قاله الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله عن انسحاب عناصر حزبه من مواقعهم على الحدود اللبنانية- السورية، ودعوته الجيش اللبناني لتسلمها. فالجميع يعلم أن الفارق بين أن تكون هذه المواقع بيد الحزب وأن تكون بيد السلطات اللبنانية ليس كبيراً. لا بل إن استبدال الحزب بالجيش هناك سيكون مضياً في مثابرة دأب الحزب عليها، وتتمثل في توظيف لبنان في مهمات حزب الله الإقليمية، بعدما شعر الأخير أن لعناصره على هذه الحدود أدواراً يمكن أن يؤديها غيرهم من دون أن ينعكس ذلك على الوضع الميداني هناك.
لكلام نصرالله قيمة أخرى، فما وزعه «الإعلام الحربي» لحزبه من صور عن حشود «أميركية وبريطانية» على الحدود السورية - الأردنية، قبل يوم واحد من خطاب نصرالله الأخير، ينفي ما قاله الأمين العام لجهة أن الحزب غير قلق من ضربة في سورية أو في لبنان. الحزب شديد القلق من هذا الاحتمال، وهو على كل حال محق في قلقه على نفسه وعلى دوره. كلام نصرالله الأخير يوحي بإرباك يتخبط به حزبه في المهام الكثيرة الموكلة إليه من السيد الإيراني. وسبق أن كشفت الزيارة التي نظمها للصحافيين إلى الحدود اللبنانية- الإسرائيلية عن هذا الإرباك وعن هذا القلق.
من الواضح أن جميع الأطراف في الحرب السورية يعيدون النظر في مواقعهم، وفي طموحاتهم. حزب الله يبدو عاجزاً عن ذلك، فهو يؤدي مهمة هناك لا قرار له في تحديد وجهتها، وإذا كان نصرالله جزءاً من وجهة القرار الإيراني، فهذا لا ينسحب على موقع حزبه، ذاك أن بنية الحزب وتركيبته لا يمكن قطعها عن جذرها اللبناني، ووصلها بالمصلحة الإيرانية من دون ارتدادات ستصيب مهمة يؤديها الحزب في لبنان. ويبدو أن نصرالله عالق هنا. أي بين المهمة الإيرانية المطلقة لحزبه في سورية، والارتدادات اللبنانية لهذه المهمة. طُلب منه حرباً في مناطق القلمون، فانتصر هناك وارتدت الحرب على بيئته المذهبية في لبنان، بأن صار الشيعة أقلية في البقاع بعد أن نزح أهل القلمون إليه، بفعل حرب حزب الله في مناطقهم.
يجري اليوم شيء مشابه. انتشر حزب الله في الجنوب السوري من القنيطرة وصولاً إلى درعا. هذه المهمة أوكلت إلى الحزب من قبل الراعي الإيراني. واليوم انعقد تحالف لمواجهة هذا الانتشار. فإسرائيل تنفذ غارات بشكل متواصل هناك، والولايات المتحدة تشعر أن إيران تحجز مقعداً لنفسها في مستقبل سورية عبر هذا الانتشار، والأردن لن يقبل بأن تكون طهران على حدوده. واليوم ثمة فرصة للأطراف كلها لفرض واقع جديد. حزب الله شعر بذلك، وها هو مجدداً يبحث عن مخرج «لبناني» لهذا المأزق غير اللبناني.
دعوة نصرالله الجيش اللبناني لتسلم مواقع الحزب على الحدود اللبنانية - السورية، هي مناسبة جديدة قال فيها نصرالله إن «الأمر لي» في لبنان، وهذا صحيح إلى حد بعيد. فالجميع في لبنان يعلم أن تسلم الجيش هذه المواقع لن يعني أكثر من عملية تبديل روتيني للوحدات. أما تصويره الدعوة بصفتها جزءاً من «تسويات» يشهدها ريف دمشق بين جيش النظام وفصائل معارضة له هناك، فهذا ينفي ما تضمنه خطابه من دعوة لأهل الطفيل للعودة إلى بلدتهم. ما يجري في ريف دمشق هو عملية مبادلة سكانية مذهلة في وضوحها. هو تتويج واضح لحرب تهدف إلى تهجير السكان السنة وإرسالهم إلى إدلب. سقوط نصرالله في هذه المقارنة كاشف لحجم الإرباك الذي يتخبط به في مهمته السورية.
العودة إلى الجنوب السوري مفيدة لمساعي تفسير الخطبة الغامضة للسيد. هو يستعين بـ «لبنان» كي يُنجده في سورية. ولبنان هنا ليس دولة أو مجتمعاً أو شراكة. لبنان هنا رهينة، والرهينة يبدو أنها بيد من لا يعرف اليوم كيف يوظفها. فهو متنازع بين مهمة لا قدرة له على الانسحاب منها، لكن لا قدرة له أيضاً على حماية نفسه من تبعاتها. وهنا، ومرة أخرى، ربما كان المفيد التمييز بين نصرالله كشريك في القرار الإيراني، وحزب الله كأداة لبنانية في يد إيران. فالفارق هنا يصنع مشهد الإرباك، فكيف للسيد أن يُوفق بين مصلحة طهران في «الحضور» في جنوب سورية، والأخطار على جسم الحزب اللبناني جراء هذه المهمة الخطيرة؟
تجرى في بادية الشام، على الحدود المشتركة بين سورية والأردن والعراق، تحضيرات لحرب الأرجح أن تمتد إلى مناطق في جنوب سورية. طرد «داعش» من المدن في سورية والعراق، سيدفع بمقاتليها إلى هذه المنطقة. حزب الله جزء من مشهد القلق الدولي هذا، وانتشاره في جنوب سورية يُعزز الاقتناع الإسرائيلي - الأميركي بأن يكون جزءاً من صفقة الحرب هذه. ومن الواضح أن موسكو لن تقبل بقطع رأس النظام في سورية، لكنها ستكون أكثر ليناً إذا ما حصرت المهمة بالقضاء على النفوذ الإيراني في جنوب سورية، لا سيما إذا ما تم ذلك ضمن صفقة أكبر تشمل حرباً على «داعش» في بادية الشام.
هذا ليس سيناريو أكيداً، إنما محاولة لتفسير خطوات المجهول التي أتى بها حزب الله في الآونة الأخيرة. الأكيد أن ثمة تحضيراً لحرب في جنوب سورية، والأكيد أن ورقة الحدود مع لبنان سُحبت من يد حزب الله، وها هو يحاول تعويضها عبر النفخ في خطاب الحرب المستحيلة هناك، وعبر بحث متعثر عن «تسوية» لبنانية لموقعه الحرج في سورية. دعوة الجيش اللبناني لتسلم الحدود مع سورية، أرفقها نصرالله بحقيقة أن عناصر حزبه سيستمرون في القتال في سورية! والحدود بهذا المعنى ستكون طريق مقاتلي الحزب الذي يحميه الجيش إلى سورية.
ثم ماذا لو شملت الغارات الإسرائيلية مواقع الجيش في هذه المناطق، لا سيما أن إحدى الوظائف الرئيسية لهذه الغارات منع وصول السلاح إلى لبنان؟ فعلى هذا النحو لطالما جرى وصل لبنان بطموحات غيره من الدول، وعلى هذا النحو جرى تدمير التجربة اللبنانية غير مرة، بدءاً من عبدالناصر مروراً بياسر عرفات وصولاً إلى قاسم سليماني. |