يبدو العنف الموجّه ضد الدول والمجتمعات كأنه عمليات بحث عن مكان أو مكانة فيها، فالأفراد والجماعات حين يعجزون عن أن يكونوا جزءاً من المنظومة الاقتصادية والاجتماعية يخرجون منها بطبيعة الحال (مهمشون) أو يخرجون عليها (إرهاب). وعلى رغم الاعتقاد بخطأ العنف والإرهاب وجريمتهما، فإننا (الدول والمجتمعات) في الوقت ذاته ندين أنفسنا لعجزنا عن توفير فرص المشاركة الاقتصادية والاجتماعية لكل فرد أو مجموعة، وعلى هذا النحو فإن الإرهاب يؤشر إلى الفشل!
لكن التطور العملي المهم في هذا الفهم للتطرف هو أن الشبكية ومتوالياتها منحت المهمشين الخارجين من المجتمع والإرهابيين الخارجين عليه فرصاً للتأثير خارج سيطرة الأنظمة السياسية ومؤسساتها. لقد وجدوا مكاناً خارج الدول والمجتمعات! وكانت الأنظمة السياسية تعتقد قبل ذلك بقدرتها على القهر والإجبار، لكنها لم تعد تملك خياراً سوى الاستيعاب أو المواجهة.
لقد جاء الإرهاب في سياق تحولات كبرى أهمها العولمة، وفي ذلك يجب النظر إلى الظاهرة في سياق التحولات وما تنشئه من فرص وتحديات، فالعولمة بما هي انسياب المعلومات والسلع والناس والأفكار والأخطار، جعلت التطرف والإرهاب منتجاً قابلاً للانسياب والتحرك في العالم، هكذا فإن ما يحدث في منطقة من العالم يؤثر في معظم إن لم يكن في مناطق العالم الأخرى كلها. وفي ذلك تتعولم الأزمات كما التجارب والأفكار والمعارف والمعلومات.
وأتاحت العولمة والتقنيات المصاحبة والمنشئة لها مثل الشبكات لجميع الناس، ومنهم المتطرفون والمهمشون بطبيعة الحال فرص التأثير والوصول إلى أي مكان في العالم واستهداف الأفراد والمجتمعات، وفي المقابل فإنه يمكن بناء شراكة عالمية للتضامن في مواجهة التطرف والإرهاب وتبادل المعلومات والأفكار والخبرات، ما يجعل المتطرفين في مواجهة العالم.
لم تعد الأسر والمؤسسات التعليمية والإعلامية والإرشادية تعمل منفردة، لكنها اليوم تتشارك في عملها مع جهات كثيرة وغالبيتها خارج السيطرة وليست معروفة وتعمل بلا حدود وتصل إلى الأفراد والناشئة والمجتمعات بلا قيود من خلال الإنترنت والفضائيات وشبكات التواصل والاتصالات، ما يجعل المؤسسات المجتمعية والوطنية في حالة منافسة قوية وصعبة. وفي الوقت عينه يمكن أيضاً بناء شراكة سهلة ومتاحة مع المؤسسات والجهات المتحالفة واقتباس تجاربها الناجحة والمتقدمة.
في هذه المواجهة (المفترضة) مع التطرف والكراهية تتشكل اليوم قناعة بأن مواجهة التطرف تكاد تكون هي التنمية الشاملة التي تجعل لجميع الناس مكاناً في الدولة والمجتمع يمنحهم الرضا والمشاركة، فما من خروج على المجتمع إلّا ويعكس فقداناً للمكانة فيه، وعلى رغم أن التطرف يقوم على أسس دينية، فمصادره لا تتوقف على الفكر الديني وإنما تعتمد أيضاً على منظومات اجتماعية وسياسية وظروف وبيئة معقدة تصعب مواجهتها مباشرة، وتحتاج الدول والمجتمعات في ذلك إلى بناء منظومة تنموية اقتصادية اجتماعية تحقق الرضا والعدالة للمجتمعات والأفراد، وهي عمليات وغايات تبدو صعبة المنال، وإذا نجح في ذلك بعض الدول، فإن دولاً كثيرة تفشل.
ويظل السؤال قائماً ومعلقاً: كيف نضمن ألا يتكرر التطرف؟ لكن السؤال الموجع والملح هل نريد بالفعل مواجهة التطرف؟ إذ يبدو أن السياسات والحوادث المشهودة تؤشر إلى عدم وجود رغبة أو قناعة بمواجهة التطرف بما هي العدالة الاجتماعية والمواجهة مع الفقر والظلم والتهميش، فما تقوم به السلطات السياسية في واقع الحال هو مواجهة مع المتطرفين وليس مع التطرف الذي يواصل نموه وصعوده في ظل احتكار القلّة للفرص والموارد، وفي المدارس والمناهج والعشوائيات الاجتماعية والاقتصادية، والمؤسسات الفاشلة، بل إن التطرف يتحول إلى استثمار جديد للأوليغاركيا، تجني من وراء مواجهته مزيداً من المنح الدولية وسياسات الهيمنة والاحتكار وتشريعاتهما.
* كاتب أردني |