في الخمسين من عمري، ليس لدي اليوم، ولم يكن لدي يوما، جواز سفر. ولم يسبق أن خرجت من سورية إلى غير لبنان عام 2003، قبل أن أمنع من السفر نهائيا في خريف 2004. حاولت بعدها مرارا الحصول على جواز، لكن دون جدوى. ليس هناك جهة مستقلة أستطيع أن أشكو إليها حرماني من هذا الحق. إن حالة الطوارئ التي تعيش سورية في ظلها منذ الساعات الأولى للحكم البعثي قبل 48عاما، تعادل عمليا إطلاق يد نخبة السلطة في الحياة العامة والخاصة للسوريين، دون أن يكون هناك ما يضمن ألا يساء استخدامها ضد عموم السوريين، ومن ذلك اعتقال من تشاء ومنع العمل والسفر عمن تشاء. وبينما تتواتر اليوم الوعود بقرب إنهاء هذه الحالة الشاذة تحت تأثير احتجاجات شعبية منتشرة، يتساءل المرء: هل يحتمل أن يحكم حزب البعث سورية بعد زوال توأمه الاستثنائي هذا؟
الذريعة الرسمية لهذه الأوضاع القانونية غير السوية هي كون البلد في حالة حرب مع إسرائيل. لكن هذه الأوضاع لم تسعف في حرب 1967 التي انتهت باحتلال مرتفعات الجولان السورية، ولا في أية مواجهات أخرى مع الدولة العبرية، أو مع أوضاع طارئة حقا. ولأن كل شيء كان طارئا خلال نحو نصف قرن، لم يبق أي شيء طارئ. الواقع أن دوام هذه الحالة التي يفترض أنها مؤقتة تعريفا حرم البلاد من المزايا القانونية والسيكولوجية والسياسية لفرض حالة الطوارئ في أوضاع استثنائية متكررة، كانت تحتاج إلى استنفار وطني فعلا. من هذه غير حرب 1967، تغير النظام بانقلاب عسكري عام 1970 أتى بالرئيس الراحل حافظ الأسد إلى السلطة، ومثل حرب أكتوبر 1973، والصراعات العنيفة بين النظام والإسلاميين بين صيف 1979 وشتاء 1982، ومثل حرب جديدة مع إسرائيل وقعت في لبنان صيف 1982، وكذلك جملة الضغوط الأميركية والغربية التي أفضت إلى انسحاب القوات السورية من لبنان في ربيع 2005، وواكبتها وتلتها ضغوط دولية قوية جدا، بدت طوال نحو عام ونصف مهددة لبقاء النظام بالذات.
لقد وفرت السياسات العدوانية الإسرائيلية التي يناهضها جميع السوريين أساسا لعسكرة الحياة السياسية، كان مناسبا جدا لحكم الحزب الواحد. لكن في الأساس وفر تعليق القانون بيئة مناسبة لنشوء حكم نخبوي جديد، ينفرد وفقا له الطاقم الحاكم والمقربين منه لا بالسلطة السياسية وحدها، ولكن أيضا بمواقع امتيازية حيال الموارد الوطنية، وينفردون بالمجد والهيبة والنفوذ والاعتراف المحلي والدولي. وبعد نصف قرن من الحكم البعثي، "الاشتراكي"، تكونت طبقة أرستقراطية جديدة في سورية لا تقبل مبادئ المواطنة والمساواة والمحاسبة، ولا يناسبها حكم القانون. ولهذه الطبقة ممثلون معروفون، توجهت ضد بعضهم أعنف انفعالات المحتجين السوريين في مدينتي درعا واللاذقية. فقد تواترت معلومات عن حرق مقري شركة سيرياتل للهاتف المحمول في المدينتين، علما أنها مملوكة للسيد رامي مخلوف، قريب الرئيس، والرجل الذي يرمز أكثر من غيره لترابط السلطة والثروة في البلاد.
في عام 2005، ودون نقاش عام ذي قيمة، قرر مؤتمرٌ لحزب البعث التحول نحو ما سمي "اقتصاد السوق الاجتماعي". يفترض أن هذا يتيح الجمع بين درجة أكبر من التنافسية والمبادرة الخاصة وبين قدر أوسع من وظائف الدولة الاجتماعية. الواقع أنه جمع بين الاحتكار وتراجع دور الدولة وتواضع نوعية السلع والخدمات المقدمة. هذا لأنه جرى في شروط سياسية ومؤسسية لا توفر حريات التنظيم والاحتجاج واستقلال النقابات، ولأن النظام القضائي المحلي شديد الفساد وفاقد للاستقلالية وليس جهة تحكيمية موثوقة بين المتقاضين المحتملين، وكذلك بفعل تقييد متشدد لفرص الوصول إلى المعلومات الهامة وتداولها وتعميمها. فضلا عن بيروقراطية فاسدة وخاملة. في المحصلة كان اقتصاد السوق الاجتماعي عنوانا غامضا، سوغ تحويل السلطة الاقتصادية لمصلحة أثرياء السلطة الذي جنوا ثرواتهم في زمن اقتصاديات القطاع الحكومي.
هذا الضرب من "لبرلة الاقتصاد" لم يقترن ولو بقدر ضئيل من اللبرلة السياسية. ثابرت السلطات على تشددها حيال المجموعات المعارضة المسالمة والصغيرة الحجم. هذه المجموعات هي بيئتي الطبيعية. لقد سبق أن قضيت سنوات ما بين 1980 و1996، أي سنوات شبابي كلها، في سجون بلدي. ولطالما اعتقل وسجن سنوات ناشطون سوريون متنوعون بسبب آرائهم فقط، أكثرهم من أصدقائي ومعارفي. واليوم بالذات، وفي إطار الاحتجاجات الأخيرة، اعتقل عدد من أصدقائي، الإناث والذكور، الشبان في أغلبهم.
إن الجيل الحاكم اليوم بعيد عن حساسيات زمن الاستقلال الوطني ونزعاته الاشتراكية، وحائز على نفوذ مادي وسياسي مهول لم يتعب فيه، وهو لذلك منفصل عن واقع حياة أكثرية السكان ولم يعد يشعر بهم وبأصواتهم المكتومة. بل لقد تطورت في السنوات الأخيرة في سورية ثقافة احتقار للعامة بفعل هذه الأوضاع الامتيازية، وليس بسبب تمايزات دينية واعتقادية موروثة، وإن استخدمت هذه لتعزيز تلك. معروف أن المجتمع السوري متعدد الأديان والمذاهب والإثنيات، ويعتقد عموما في الغرب أن هذا التكوين حامل بذاته لمخاطر النزاع الأهلي، وأن ما يحول دون هذا هو نظام حكم متشدد. وتاليا فإن الديمقراطية مستبعدة في مجتمعات لها هذه البنية. لكن هذا غير صحيح في رأيي. لا تتحول التمايزات الموروثة إلى مصادر توترات سياسية إلا إذا أصبحت أقنية للامتياز المادي أو السياسي لبعض النخب القائدة. علينا أن نفتش عن المصالح وعن الطبقات وراء ما يسمى باستسهال "الطوائف".
أريد القول إن "الطائفية" شأن سياسي متصل بنمط ممارسة السلطة، وهي ابنة الامتياز والتمييز، وليست ابنة "الطبيعة". ومن شأن التغيير السياسي باتجاه يكفل مزيدا من المساواة وحكم القانون لعموم السكان أن يحد منها، لا أن يقود إلى تفجرها. لقد عشت دوما في بيئة متعددة دينيا، وعبر المصاهرة في أسرتي مسلمون ومسيحيون وسنيون وعلويون، ولذلك أظنني أعرف جيدا عم أتكلم.
وليس ثمة ما يشير إلى أن لأي إسلاميين سوريين دورا واضحا في ما شهدته البلاد من الاحتجاجات، رغم انطلاق بعض أبرزها من مساجد. الدين هو حد الفقر السياسي في البلاد. فهناك "تجمعات" لا تستطيع السلطات فضّها هي تجمع المؤمنين للصلاة، و"آراء" لا تستطيع منع التعبير عنها، هي النصوص الدينية. وعلى كل حال، لم يكن بين الهتافات التي رفعت في الاحتجاجات ما له طابع ديني. الواقع أنه في الأسبوع الأخير من آذار جرى التركيز في اعتصام في مدينة اللاذقية المختلطة دينيا على الوحدة الوطنية، وعلى عدم التمييز بين منحدرين من أديان ومذاهب مختلفة. وكان أبرز هتاف ارتفع من مسجد الرفاعي في دمشق يوم 1 نيسان هو: "واحد، واحد، واحد/ الشعب السوري واحد!"
التطلع إلى مزيد من المساواة ومن العدالة والكرامة والحرية هو ما يُحفِّز الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية للسوريين اليوم. وهو ما دفع كثيرين منهم إلى تحدي الخوف من السلطات، والحذر من الشركاء في البلد. الحرية لا تنبت على تربة الخوف الذي جعل منه مونتسكيو فضيلة الطغيان، والثقة بالشركاء واحترام الفوارق بينهم هو ما يؤسس شعبا حرا.
للنظام قاعدة اجتماعية حقيقية، أوسع مما كان لنظامي مبارك في مصر وزين العابدين بن علي في تونس. هذا مصدر قوة للنظام يبدو أنه لا يأخذه بالاعتبار حين يفرط في الاعتماد على المعالجات الأمنية. بالمقابل، هناك قاعدة اجتماعية واسعة للاحتجاج الذي يمثل روح الحرية في سورية، قاعدة ينبغي الاعتراف بها سياسيا وعادة بناء النظام السياسي بحيث يتاح لها موقع ودور شرعيان.
أنا أؤمن أنه أيا تكن حصيلة الاحتجاجات الشعبية اليوم في سورية، فإن أمام البلد أزمنة صعبة. لكن بين آلام القمع ومشاق التحرر، أُفضِّل الأخيرة طبعا.
لا أريد شخصيا أن أعيش في غير سورية، لكني أتطلع إلى حيازة جواز سفر لأرى ثلاثة من إخوتي الذين يقيمون في بلدان أوربية، لم أر أياً منهم منذ نحو عشر سنوات، وهم لا يستطيعون الرجوع للبلد لأسباب سياسية.
أريد أيضا أن أشعر، أخيرا، بالأمان.
|