تجهد المجتمعات في أنحاء العالم للتأقلم مع كلٍ من نظام عالمي مُتغيِّر بسرعة، وشعبوية عابرة للقوميات. بيد أن المنطقة العربية، المُتصدّعة بفعل الأنظمة السلطوية والتطرف الديني، تواجه أكثر من غيرها أمواجاً عاتية من التحديات المحلية والعالمية معاً، منها: التغيُّرات التكنولوجية والديموغرافية، والاضطرابات الإقليمية، وارتكاس عائدات النفط، والصراعات والتدخلات الأجنبية، وإرث عقود من السلطوية وسوء الإدارة الاقتصادية. وحصيلة كل ذلك مرحلة هي الأكثر تدميراً في الشرق الأوسط، منذ تأسيس نظام الدول العربية الحديثة غداة الحرب العالمية الأولى.
لهذه الأسباب، يهدف مشروع «آفاق العالم العربي» الذي يُنفّذ على مدى سنوات بعد إطلاقه في تشرين الأول (أكتوبر) 2015، إلى إلقاء أضواء ساطعة على هذه الأحداث المضطربة.
وقد تم إصدار تقرير جديد بعنوان «انكسارات عربية: مواطنون، دول، وعقود اجتماعية»، وضعه باحثون من برنامج كارنيغي للشرق الأوسط.
يتناول التقرير بالدراسة والتمحيص الاتجاهات الوطنية والعالمية في المشهد السياسي الجيو- سياسي للبلدان العربية، ويتضمّن تعليقات من شخصيات عامة عربية مرموقة، وأيضاً دراسات حول كيفية تجلّي هذه الديناميكيات في بلدان عربية مُحددة.
وجد التقرير أن ركيزتين من النظام العربي دعّمتا سابقاً السلطة السياسية والاقتصادية في معظم البلدان العربية، فيما كانتا تعيقان في الوقت عينه التطور. إذ عملت الأنظمة العربية طيلة عقود على أساس قاعدة «المساومات السلطوية»، التي يجرى في سياقها مقايضة توفير الخدمات الأساسية للمواطنين في مقابل خضوعهم السياسي. بيد أن مثل هذه العقود الاجتماعية شرعت في التآكل، بعد أن باتت الموازنات المُتضخمة والبيروقراطيات المُنتفخة عاجزة عن مجاراة المطالب المتصاعدة لأعداد متزايدة من السكان. وفي الوقت عينه، أدار العديد من البلدان أنظمة ريعية، قائمة على إعالات كثيفة. لكن الانخفاض الحاد في أسعار النفط الذي بدأ في العام 2014، أطلق تحديات جسيمة بعيدة المدى في وجه العالم العربي، ما جعل الأنظمة الريعية، عدا أغناها، غير قابلة للاستمرار بشكل مُطّرد. وبالتالي، استهلك المنطق التنظيمي السائد في معظم البلدان العربية نفسه ووصل إلى خواتيمه.
مع ذلك، وبدلاً من التصدّي للتظلمات الاقتصادية- الاجتماعية والسياسية، نَزَعَ قادة عرب على وجه العموم، وبدرجات متباينة من الدهاء، نحو ممارسة السلوكيات المعتادة الخاصة بالاستتباع من خلال التقديمات الاجتماعية، وبالإكراه عبر القمع. وهكذا، بقيت الأنظمة الفاسدة والضارية أصلاً، والتي تطوّرت على مدى عقود في العديد من البلدان، مُتماسكة، وقاومت جهود الإصلاح، وحرمت دولها من وسائل مواجهة أزمة الثقة المتصاعدة بين المواطنين وبين حكوماتها.
نتيجة لذلك، بدأت الأنظمة الأكثر نزوعاً إلى القمع بالتفكك وفق خطوط الصدع الإثنية والأيديولوجية والطائفية والقبلية، فيما كانت ستة بلدان أخرى أو أكثر تُعاين قلاقل سياسية محلية جمّة. أبرز تجليات هذا التطوّر كانت سورية، التي عَلِقَ مواطنوها بين مطرقة نظام مُستعد لمسح مدن برمتها بالأرض وبين سندان العنف الإبادي لتنظيم الدولة الإسلامية. هذا في حين كانت مراكز قوة إقليمية سابقة، كمصر والعراق، مُكبّلة بشدة بتضعضعها الداخلي، ما أفسح المجال أمام دول قوية للتدخل في شؤون الدول الأضعف.
والآن، من غير المحتمل أن يضع القادة، الذين فشلوا حتى اللحظة في إدراك قيمة شعوبهم كمصدر للتطوّر الاقتصادي، مصالح هذه الشعوب على رأس أولوياتهم، طالما لم يصلوا إلى القناعة بأن لا بديل عن ذلك. وتبعاً لهذا، تُواصل الأنظمة، عدا بعض الاستثناءات النادرة، التشبُّث بأمر واقع واهٍ، وإن انطوى ذلك على أخطار كارثية. لكن المواطنين الذين يُطلَب منهم الآن التضحية بالعطاءات الاجتماعية القديمة العهد باسم التقشُّف المالي، سيُطالِبُون الآن في المقابل بالمساءلة، والعدالة، وبأن تكون لهم كلمة في الشأن الوطني.
قد يكون من السهل القفز إلى الاستنتاج بأن الفوضى المتواصلة في الشرق الأوسط قضاءٌ وقدرٌ لا رادّ له. لكن، ثمة مناطق أخرى عانت انهيارات مماثلة وتمكّنت من تجنّب السقــوط في الهــــاوية، على غرار جنوب شـــرقي آسيــا بعد حـــروب الهند الصينية في الستينات والسبعينات، ومنطقة البلقان غداة الحروب في يــــوغوسلافيا السابقة في التسعينات، والعديد من مناطق أفريقيا بما في ذلك مركز القارة بعد الحرب الأفريقية الكبرى في الكونغو في التسعينات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
والآن، إذا ما أرادت المجتمعات العربية الانعتاق من إسار دورة العنف، والسلطوية، والركود الاقتصادي، ستكون في حاجة ماسّة إلى بلورة نماذج سياسية واقتصادية- اجتماعية جديدة، وسيتعيّن على المواطنين والدول إبرام عـــقود اجتماعية مُغايرة تؤسٍّس للمحاسبة وتُفعّل الإصلاحات السياسية والاقتصادية، في الوقت الذي سيحتاج القادة الإقليميون إلى بدء بلورة رؤاهم للشرق الأوسط في مرحلة ما بعد النزاع.
وسيعني كل ذلك ضرورة زيادة مستوى المشاركة في السلطة ومنح المواطنين صوتاً أعلى في الشؤون السياسية، من خلال انتخابات برلمانية ومجالس استشارية على كلٍ من المستويين المحلي والوطني. وفي جمهوريات أفريقيا الشمالية، كالجزائر ومصر، قد يعني هذا فصلاً أعمق بين السلطات، كما في النظام البرلماني التونسي، بحيث لا تفرض مؤسسة أو مجموعة سيطرتها المُنفردة. أما الدول التي كانت مركزية والمبتلاة بحروب ضروس ومُهلكة، كليبيا وسورية واليمن، فستكون في حاجة إلى تغييرات جذرية قد تتطلّب السماح لمناطق ومجتمعات محلية بحيّز حرية أكبر لإدارة شؤونها بنفسها، وتوفير حماية مادية للأقليات فيها. في أية حال، ثمة أمر واحد مؤكَّد في هذا الخِضَم: النظام الإقليمي القديم في حال فوضى واضطراب، وليس واضحاً إلى أين يتّجه. هذه هي الحقيقة التي يُواجِهَها هذه الأيام الشرق الأوسط ، المنطقة التي لا تزال حاسمة للسلام والأمن الدوليين.
تطلق مؤسسة كارنيغي التقرير من فندق فينيسيا في بيروت غداً الجمعة، ويمكن للمُهتمين مشاهدة حفلة الإطلاق مباشرة على صفحة فايسبوك التالية الخاصة بمركز كارنيغي للشرق الأوسط:
* نائب رئيس مركز كارنيغي للسلام
** باحث في مركز كارنيغي للسلام |