"إذا توجهت إلى الشرق احترس الآلهة" هذا ما كان يقوله ويكتبه بلينيوس القديم ( 23-79 بعد المسيح) وهو من كبار علماء روما واحد قادتها العسكريين حيث كان قائداً للأسطول البحري الروماني أمام مدينة بومبيي عند انفجار بركان الفيزوف فتوجه مع أسطوله ونزل إلى البر لمساعدة مواطنيه ولقي حتفه على شاطئ البحر.
وإذا رغبت بالإشارة إلى ما قاله بلينيوس فليس بطبيعة الحال رغبة مني بحمل البعض للاستشهاد حيث ستفتقدهم من ملذات الأخبار على شاشات التلفزيون وفي صحفنا اليومية. فإذا جئت على ذكر بلينيوس فهو للتأكيد فقط على أن روما كانت تتمتع بقدرة الأخذ في الاعتبار في سياستها الشرقية بصورة حكيمة وذكية الآلهة والإنسان. وآلهة البارحة هي طوائف وعائلات وقبائل اليوم في لبنان وفي سائر دول الشرق الأوسط بالإضافة إلى طوائف الأقليات في مختلف أنحاء العالم كالولايات المتحدة الأميركية (هجرة مواطني أميركا الجنوبية) وأوروبا.
أما اللافت حالياً فهو يعود إلى تعبير بعض المواطنين عن مطالبتهم بإسقاط النظام الطائفي في لبنان وكأنه نظام مماثل للأنظمة السياسية التي سقطت في العالم العربي أمثال نظامي الرئيسين بن علي ومبارك – في حين أن إسقاط النظام الطائفي لا ينحصر بإسقاط شخص كما كانت حال الأنظمة العربية التي سقطت بل بإسقاط نظام اجتماعي وثقافي. وبالتالي إن ما نشهده اليوم هو ان المطالبة بإلغاء النظام الطائفي تبدو على قياس رغبات كل فرد أو جمعية أو طائفة، ومن غرائب هذه المطالبة عدم إمكان المطالبين تعيين شخص لاسقاطه للانتهاء من هذا النظام الطائفي أسوة بما حصل في بعض الدول في العالم العربي. لماذا؟
لأن إلغاء الطائفية السياسية في لبنان هو إلغاء لنظام اجتماعي وثقافي واقتصادي مجذر في التاريخ السياسي نتيجة التطور اللبناني منذ ما قبل نشأة الإمارة المعنية ومن خلال نشاط المؤسسات السياسية والإدارية اللبنانية منذ قرون وليس نظاماً اصطناعاً مفروضاً بصورةٍ فوقية من قبل الغير. وبالتالي لا بدّ من المحافظة على برودة التحليل ومحاولة إعطاء منحى منهجي متماسك لهذا الجدل الذي يعتبر كل مواطن لبناني انه معنيّ به حكماً ومباشرةً. وفي بادئ الأمر لنميّز بين الخطاب الدستوري والخطاب السياسي.
فعلى مستوى الخطاب الدستوري ماذا ينص عليه الدستور الذي هو القانون الوضعي ومصدر ومرجع أي نقاش دستوري في الديموقراطيات الطبيعية؟ من العودة إلى مضمون أحكام المادة 95 المعدلة من الدستور وتوضيحاً للأمور، حيث إن من الممكن لكثيرين من اللبنانيين الذين لم يطلعوا يوماً على مضمون هذه المادة أن يلتزموا كالعادة المواقف الجدلية، نرى أن أحكامها شملت ثلاثة أمور:
1- صلاحية إنشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية: يعود لمجلس النواب وحده المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الإجراءات الملائمة لإنشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية – على ان تشكل برئاسة رئيس الجمهورية وعضوية رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء وشخصيات سياسية وفكرية واجتماعية.
2- مهمة الهيئة: حددت الفقرة الثانية من المادة 95 من الدستور مهمة الهيئة بدراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلس النواب ومجلس الوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية.
3- المرحلة الانتقالية: ما هي هذه المرحلة الانتقالية التي تمارس حالياً في نظامنا السياسي؟ ان الفقرات الأخيرة من المادة 95 من الدستور قد حددت هذه المرحلة بما يلي:
(أ) تمثيل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة؛ و(ب) إلغاء قاعدة التمثيل الطائفي مع اعتماد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني باستثناء وظائف الفئة الأولى منها حيث توزع هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة مع التقيد بالاختصاص والكفاءة. ماذا يمكن استنتاجه من هذه المراجعة للنص الدستوري؟
1- اعتماد المشاركين في مؤتمر الطائف تعديل النص الأصلي للمادة 95 الموضوع أصلاً من قبل مشّرعي الدستور بحكمة وذكاء، مع تضمين هذا التعديل آلية محددة لإنشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية.
2- الخلط أو التمييز (حسب ما يرتئيه كل محلل وفقاً لمواقفه) بين إلغاء الطائفية السياسية كما ورد في الفقرة الأولى من المادة 95 من الدستور وإلغاء الطائفية كما ورد في الفقرة الثانية من المادة المذكورة – حيث ان عدم ذكر عبارة "السياسية" في هذه الفقرة يؤكد ان مهمة الهيئة المشكلة هي إلغاء "الطائفية" وليس "الطائفية السياسية".
3- إمكان قيام طرح موضوع انشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية في مجلس النواب وفقاً للأصول واتخاذ القرار بالأكثرية العادية وإلزام رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء الانضمام الى هذه الهيئة وترؤسها من قبل رئيس الجمهورية – علماً ان الدستور لم يتضمن أية أحكام من شأنها معالجة تحفظ رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء عن طرح أنشاء هيئة كهذه مما يعني ان أي قرار غير ملائم في هذا الشأن إن لجهة إنشاء الهيئة أو لجهة الانضمام إليها يشكل مدخلاً لازمة دستورية وسياسية محتملة.
4- اعتماد المادة 95 من الدستور عبارتين متناقضتين لهما انعكاس كبير على أعمال الهيئة ونتيجة أعمالها. فالفقرة الثانية من المادة 95 أوردت ان من مهام الهيئة وضع "الخطة المرحلية" لإلغاء الطائفية (وليس الطائفية السياسية حيث سقطت هذه الكلمة في صياغة الفقرة المذكورة) في حين أن الفقرة الثالثة اعتمدت عبارة "المرحلة الانتقالية" التي لحظت توزيع وظائف الفئة الأولى مناصفة بين المسيحيين والمسلمين. وهنا يطرح السؤال هل ان الخطة المرحلية تلتزم بالمرحلة الانتقالية؟ وهل ان الهيئة ستلتزم بالمناصفة بين المسيحيين والمسلمين كفرضية وكسب دستوري نهائي ام لا؟ وما هو مصير سائر مواد الدستور المتعلقة بحقوق الطوائف والممارسة الدستورية؟
ان التسرع في صياغة تعديل مضمون المادة 95 من الدستور وعدم اعتماد الحذر اللازم الذي سبق وتوافق عليه واضعو الدستور عام 1926 فتح مجالاً واسعاً لجدل كبير نتيجة أي تحفظ أو تسرع سيولد أزمة دستورية وسياسية بغاية الدقة والخطورة. ولهذا السبب بالذات يقتضي بالخطاب الدستوري أن يبقى ضمن منهجية متماسكة لرصد الأحكام الدستورية وتطبيقها كما هو معمول به في الأنظمة الديموقراطية التي تدّرس في جامعات الحقوق لكي لا يطغى عليه فوراً – ومن الممكن ان نقول غرائزياً - خطاب سياسي مليء بما يقال وبما لا يقال.
لماذا؟ لان من ابرز خصوصيات الخطاب السياسي اللبناني انه يهدف الى إبراز نفسه بأنه متماسك طبيعياً بالنسبة الى مسلمات سياسية في حين أن الشجرة تحجب غابة من سوء التفاهم ومن الشكوك. وموضوع الطائفية بالذات هو بغاية الدقة في لبنان لأنه خلاصة تطور طبيعي خلال قرون عدة للمجتمع اللبناني الذي تمكن من تكوين نفسه انطلاقاً من هذا التضامن الطائفي بالذات. فالمتجمع اللبناني بمختلف مقوماته الدينية والسياسية والثقافية وخاصة الاقتصادية والاجتماعية قد سبق نشأة الدولة اللبنانية وهذا ما يجب ألاّ ننساه حيث ان الدستور بالذات قد اقرّ بهذا التراث الإنساني للمجتمع اللبناني. ان طرح إلغاء الطائفية السياسية من منظار دستوري بحت يدفع بطرح القضية حكماً على المستوى السياسي لرصد مقومات خيار كهذا حيث من الممكن أن ينفذ سريعاً الى مغامرة سياسية ذات انعكاسات غير متوقعة – لماذا؟
لأنه ابعد من محاولة تجاوز التوزيع الطائفي البسيط للوظائف العامة، من الممكن أن ننتهي سريعاً الى المقومات المتجذرة لنشأة هذا المجتمع من خلال التطرق إلى أساسات تاريخية هي إن رغبنا أم لا اصلب من مؤسساتنا السياسية بالذات. والمثل الأبرز في هذا المجال هو ان سقوط الدولة بين 1975 و1990 لم يؤدِّ الى سقوط المجتمع اللبناني الذي وجد في جذوره الدفع اللازم للحياة. هذا لا يعني بالضرورة أن على المجتمع اللبناني ان يستقر في موقع دفاعي خامد لما يمكن ان يعتبر بمثابة امتيازات أو تراث تجاوزه الزمن. ان العمل في سبيل الإنسان ومع الإنسان يبقى من الأمور النبيلة والمجحفة في وقت واحد. وعلى الذكاء اللبناني - أو ما بقي منه - ان ينظر بجدية إلى سيناريوات التقدم لمؤسساتنا. ولكن إن قيام النواب في الطائف بصورة متسرعة وبمبادرة شخصية لتعديلات دستورية دون أن يترقبوا خطورتها حيث تم نقل أو تعزيز سلطات بعض المراكز بدلاً من توازنها أدى إلى ما نعيشه اليوم على مستويات دستورية عديدة من تفسيرات ومواقف متسرعة أو غير مبررة. لذلك يقتضي علينا أن نحافظ على حكمة الحوار وبرودة الأفكار ونتذكر انه إذا كانت روما تأخذ في الاعتبار منذ أكثر من ألفي سنة المقومات الدقيقة لمجتمعات الشرق الأدنى لا بدّ من استحالة تحويل التاريخ وتراث الأجيال إلى خبر سياسي يومي وعادي.
لماذا أيضاً؟ لان من خصوصيات السياسات الواقعة في الأزمات أو التي هي في وضع التدهور ان تدفع بطروحات ذات أهمية تاريخية كبيرة لتغطية فشلها في خدمة المواطن ومواجهة التحديات التي تجتاح عمق المجتمع والسياسة في شرقنا الأدنى الحالي. وفي مطلق الأحوال لا بدّ من الإقرار بما يجب ان يتمتع به رئيس الجمهورية من حكمة على عادته لكي يترأس هذه الهيئة في حال تشكيلها لكي لا تصبح هذه المطالبة بإلغاء الطائفية السياسية أو الطائفية فقط وفقاً لما ورد من عبارات في المادة 95 من الدستور – مطالبة طائفية جديدة محجوبة.
(محامٍ)
|