التاريخ: نيسان ١١, ٢٠١١
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
...كي يسقط النظام الطائفي - عايدة الجوهري

في  شباط وآذار، خرج عشرات الآلاف من اللبنانيين الى الشارع، متعمدين في كل مرة الربط بين شطري العاصمة "الشرقية" و"الغربية"، في حركة رمزية لا تليق بأي تجمع اعتراضي سياسي آخر، متعالين على ثورتي 14 و8 المزعومتين، يحدوهم أمل كبير. هو اسقاط النظام الطائفي، لم يحصروه بالشق السياسي، هو أمل بإعادة صياغة حياة اللبنانيين العامة وبعض الخاصة (الاحوال الشخصية على سبيل المثال)، وفق أسس مدنية. هو إعادة صياغة حياة، لأن إسقاط النظام الطائفي اللبناني لا يتعلق برفض سياسات معينة، ينتهجها طاقم سياسي معين في حقبة زمنية معينة، كما في مصر وتونس، رغم أن إنحلال السياسات وتخثرها في حقبة ما، يؤجج الرغبة في اسقاطه كما هو الحال الآن، بل برفض فلسفة سياسية اجتماعية مزمنة تعود ارهاصاتها الى العهود العثمانية، الى الدور الممنوح وقتئذ لرجال الدين كناطقين باسم المجموعات الدينية على أنواعها، والى التعامل مع المجموعات الدينية كمجموعات سياسية في إطار الدولة الواحدة، كما الى خطة توزيع المناصب السياسية والادارية في متصرفية جبل لبنان (1861 – 1915) بناء على الهوية الدينية.


وكان ابرهيم باشا، ابن محمد علي، قد ابتكر مبدأ المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في المجالس المحلية التي اشرف على تأسيسها في بلاد الشام، أي ان مفهوم "الكوتا" الطائفية، مفهوم قديم العهد، وكذلك فكرة تحويل الطوائف الى مجموعات سياسية. وكان نظام الملّي العثماني قد منح الطوائف غير الاسلامية امتيازات خاصة لم تلغها التنظيمات (1839 – 1856) كل هذه التدابير وغيرها أمعنت الحكومات اللبنانية المتوالية منذ تأسيس دولة لبنان الكبير عام 1920 في ترسيخها ولو على حساب المواثيق المستجدة، كميثاق الطائف 1989، وإن لم يطرح هذا الاخير حلاً جذرياً للمشكلة، مبقياً على حريات الطوائف في العديد من المجالات منها إدارة الاحوال الشخصية وإنشاء مدارسها الخاصة (المادتان 9 و10) من مقدمة "ميثاق الطائف"، عدا عن حفاظه على ما سمّاه "المصالح الدينية" دون أن يعيّنها أو يفصّلها.


لن يتعذر على المطالبين بإسقاط النظام الطائفي تسويغ مطلبهم وإيجاد الحجج والبراهين اللازمة، مستندين الى النتائج البيّنة لهذا النظام، أهمها على الاطلاق تفسخ الوطن ووهن الدولة وتهالكها وتشتت المواطن بين السلطات السياسية المحلية والعامة، ومروره القسري بالسلطات المحلية للحصول على حقوقه، واستبداد الاخيرة به وابتزازه، وتناقض السلطات السياسية المنبثقة عن هذا النظام الى حد التصادم أو التعطيل، ولامبالاتها بالشؤون العامة وفشلها الاخلاقي وفسادها إلخ...


نجم عن هذا النظام الطائفي العتيق مجموعة كيانات – غيتوات طائفية، استقلت بفضل جهود سلطاتها الدينية والسياسية التاريخية، بمدارسها وجامعاتها ومستشفياتها ومؤسساتها الرعائية والخيرية التي تحتضن الايتام واللقطاء والمعوقين والمعوزين والمسجونين والمدمنين على المخدرات والمهمشين عموماً، كما استقلت هذه الكيانات بوسائلها الاعلامية، محطات تلفزة، إذاعات، صحف، وبمؤسساتها الثقافية، مؤسسات بحثية، دور نشر، معارض كتب، وحتى بفرقها الرياضية والكشفية، وبعضها استقل تماماً بأمنه و"جيشه"، بالاضافة الى المكتسبات التاريخية الراسخة كالمحاكم المذهبية والاوقاف، وبعض الامتيازات اللاحقة الاضافية، كالإعفاء من الضرائب، وحق التدخل "الدستوري" في حريات التعبير والابداع، والذي يباغتنا بقرارات منع وتوقيف مسرحيات وأفلام سينمائية وأغانٍ وكتب بحجة المسّ بالقيم الدينية، وغيرها من المظاهر ذات البعد العام والخاص، التي تدل على تمأسس الطائفية حتى صار ينقص هذه الكيانات بعض الخدمات العشوائية التي توفرها الدولة كي تعلن استقلالها سيما وقد تحقق بفعل الحرب الاهلية صفاء معظم المناطق المذهبي شبه التام.


تدل هذه المظاهر على تمأسس الطائفية. والطائفية مصطلح نستعمله ها هنا لا للدلالة على الشعور العنصري الذي قد ينتاب الطوائف بعضها ضد الاخرى وهذا طبعاً جائز وحادث، ولا على التمييز بين المواطنين في الوظائف العامة السياسية والادارية وهذا أمر مكرس ومفضوح، بل للدلالة على شروط ووظائف اقامة المؤسسات التي تعود بالنفع لفئة لبنانية دون أخرى، والتي تنظم بعض وجوه الحياة اليومية والاجتماعية والمعرفية، والتي أدت على مر الزمن الى لا تجانس اجتماعي ومعرفي وثقافي بين مختلف المكونات اللبنانية، يتم أحياناً تجميله بصفته تنوعاً وتعدداً وإحالته الى جنة الحريات التي يتمتع بها لبنان، دون غيره. إلا أن هذا التنوع المفرط عزّز غربة اللبنانيين بعضهم عن بعض، حتى صار التنقل بين منطقة لبنانية وأخرى، بمثابة التنقل بين جمهورية وأخرى، وتضاعف هذه الغربة، الفروقات في مستويات التنمية والتحديث وأنماط العيش التي تعود الى اسباب سياسية طائفية وأخرى ثقافية في آن واحد.


ويتطابق هذا التشرذم الاجتماعي والثقافي مع تشرذم سياسي، فلكل كيان طائفي ممثلوه السياسيون، الذين يمارسون دوراً مزدوجاً، فهم يديرون مقاطعاتهم، معظمهم على الاقل، ثم يتدخلون في إدارة البلاد العامة بصفتهم "نواب الأمة"، مستفيدين من الموقعين لتعزيز سلطتهم هنا وهناك، وغالباً ما يتم تقديم المصالح المحلية على المصالح العامة الوطنية، وهذا الامر يطرح مشكلة معرفية، تعصى على فلسفة الديموقراطية التي تتعاطى مع أفراد أحرار، أسياد أنفسهم، ومتساوين، لا مع جماعات كلية، إذ تفترض الديموقراطية الطائفية أن لهذه الاخيرة حاجات اقتصادية واجتماعية وتربوية وثقافية وتنموية ورؤية استراتيجية مخصوصة، تستحق لاجلها من ينطق باسمها هي وحدها.


وفي المقابل أدى تشرذم البلاد اجتماعياً وسياسياً وتداخل المرجعيات المحلية والعامة، وتهافت الحس العام الى حدوده الدنيا الى توهين دور الدولة بل فشلها وعجزها عن التشكل كناظم موضوعي وحيادي لحياة الافراد المشتركة، وكحام للأمن والقانون والعدالة (فساد القضاء)، وكراع للتوازن الاجتماعي، باعادة توزيع الثروة العامة وانصاف المنتجين، وكحاضن للمهمشين، وكمحفّز حقيقي لدينامية المجتمع، وسيره نحو التقدم والتنمية الخ... واللبنانيون ينجحون فردياً لا ضمن نسق مجتمعي تطوري عام.


وبالتالي فشلت هذه الدولة في جوهر مهمتها وهو الفصل بين الشؤون العامة والشؤون الخاصة، فالأموال العامة والممتلكات العامة والخدمات العامة، نهب للقوى النافذة في الطوائف وزبائنها، وملفات الفساد خير شاهد على تدهور اخلاقيات الناطقين باسم طوائفهم، وما تتعرض له البيئة اللبنانية من انتهاكات هو ايضاً خير دليل على اختلاط العام بالخاص، فمن يغطي على سبيل المثال تجاوزات اصحاب الكسارات والمرامل التاريخية؟ ومن يسكت عن فتح ملف الاملاك البحرية والمطامر الملوثة للبيئة وغيرها من مظاهر الاستهتار بالعام والمصلحة العامة المشتركة؟
بمعنى آخر فشلت السلطة السياسية المنبثقة عن هذا النظام في إدارة الحياة العامة، وما انشىء في عهد فؤاد شهاب تعرض للانهيار وهذه السلطة مستمرة في غيّها وعسفها، لا تخضع للمراقبة والمحاسبة الدستوريتين، فدوائر المحاسبة والمراقبة بأمرتها، وهي تحتمي بعصبيات طوائفها، وبما تنتزعه لها من موارد الدولة، في حفلة تناتش مخجلة.


تتعدد اعراض النظام الطائفي وتكاد تشمل معظم تفاصيل الحياة العامة والخاصة، فالعلاقة جدلية بين الحياتين، وأي انقلاب كامل عليه هو نسف لعدد هائل من المؤسسات، وهذا امر مستحيل وخيالي، والتغيير الجذري في حياة المجتمعات يستغرق عشرات السنين، فالعلمانية الفرنسية لم تعدّ ناجزة سوى في عام 1904، حيث قطعت السلطات السياسية الفرنسية المنتخبة علاقاتها مع الفاتيكان وعام 1945 كرّس الدستور الفرنسي علمانية الدولة النهائية، أي بعد حوالى قرن ونصف من اندلاع الثورة الفرنسية عام 1789 ضد النبلاء والاكليروس، لا نفترض ان التحولات النهائية قد تستغرق وقتاً مماثلاً ولكنها لن تتم دفعة واحدة ولا بشكل فوري.
ولكن لا بد من البدء من موقع ما محوري لهزّ القلاع الطائفية، من القلب، من المساحة المفترض مشتركة، من الدولة، كناظم مفترض لحياة الافراد.


يتحول حينئذ شعار "الدولة المدنية" الى شعار اساسي جوهري، مع شرح دقيق لمقتضيات التوصل لتحقيقه. لا يكفي طرح مشروع الغاء الطائفية السياسية والادارية دون القوانين الاخرى (قوانين الاحوال الشخصية وحريات الطوائف) لتحقيقها، ودون المطالبة بدور اكبر للدولة بإدارة حياة اللبنانيين العامة، لا يكفي بمعنى آخر تطبيق بعض بنود الطائف.
يحتاج اللبنانيون، غير اولئك المستفيدين من النظام، الى دولة راسخة، غير مستباحة، مساوية بين جميع مواطنيها، حامية للقانون، والقانون هو الاب البديل للجماعات اللبنانية الفاقدة للأب المشترك، والباحثة عبثاً عن اب مخلص، الزعيم.


ولما كانت الدولة على صورة السلطة التي تديرها، يقتضي هذا الشعار الكبير "اسقاط النظام الطائفي" السعي الى انتاج سلطة مدنية بديلة تحمل مشروع تحديث الدولة في اتجاه العلمنة، مزودة ببرنامج اقتصادي اجتماعي ثقافي وتربوي يحقق التنمية والعدالة، لأن السلطة الحالية لن تكون مستعدة للتنازل عن امتيازاتها، لا هي ولا السلطة الدينية التي تدعمها، كما لن تكون مستعدة لتعديل سياساتها العامة.
بقي ان نسأل إذا مات القديم كيف يولد الجديد وهل "الشعب" اللبناني على اختلاف شرائحه وفئاته مهيأ للاتيان بسلطة مدنية بديلة منتخبة؟ نقول منتخبة لأننا نضمر استحالة ولا جدوى الانقلابات في الحالة اللبنانية، فالثورات العربية الناجحة حتى الآن، مصر وتونس، أدت الى انقلاب على السلطة القديمة، وهذا يتعذر في لبنان، بحكم تركيبته من جهة ولعدم تشكل قوى اجتماعية ضاغطة واسعة، عابرة للطوائف لإنجاز هذه المهمة من جهة اخرى، عدا عن كون المشكلة لا تقتصر على رموز محددة تنتهج نهجاً محدداً كما أسلفنا.


الثورة المنادى بها هي ثورة ثقافية أولاً تقوم على ايقاظ الجماهير، لأنه ليس هناك جمهور واحد، من غفوتها وخدرها، ولفتها بإصرار الى وجود مشكلة بنيوية، بالتركيز على ارتدادات هذا النظام وفشله وفشل السلطة المنبثقة عنه، على مرّ عهود الجمهورية اللبنانية، بتوحيده وبنائه كوطن حقيقي، وحثها على الانضمام الى حركة التغيير. من المنطقي ان يكون الأمر كذلك، فالجماهير هي رافعة التغيير وعلى النخب قيادتها والايهام ان "الفايس بوك" هو اكثر من وسيلة تبليغ وتنسيق امر مضلّل. وإذا لم يحدث تغيير في وعي الجماهير السياسي آل المصير الى ما آلت اليه افكار كتّاب عصر النهضة الذين زودوا اللبنانيين والعرب بذخيرة فكرية عظيمة ولكن أفكارهم لم تفعل فعلها في العامة فظلت حبيسة الكتب والجماهير حبيسة افكارها الموروثة وانتماءاتها الاولية، ونحن في عصر الانتخاب الشامل Le suffrage universel لا "المقيّد"، وقادة الطوائف لم يأتوا بالمظلات بل بصناديق الاقتراع.
فالمسيرة ليست هيّنة وتكمن اهمية الحملة لاسقاط النظام الطائفي بأنها ترفض التعاطي مع النظام المذكور كقدر حتمي، كما يتبدى للبعض، بل يمكن ويجوز زعزعته.

 

( استاذ في الجامعة اللبنانية)