التاريخ: كانون الأول ١٨, ٢٠١٠
 
في لبنان التسوية أو البربريّة

السبت, 18 ديسيمبر 2010
حازم صاغيّة


لبنان بلد صعب. هو صغير، وفي نظر البعض سخيف. لكنّه بالتأكيد بلد عصيّ على السهولة. الحقيقة الواحدة مهما بدت لأصحابها صائبة وبديهيّة، لا تختصر حقائقه. والجماعة الواحدة مهما بدت مصيبة ومتفانية ومؤمنة بحقيقتها، لا تلخّص جماعاته.


هذا ما يعرفه الذين عاينوا عن كثب تجربة بشير الجميّل، وكان مفعماً بحقيقته، كما كانت جماعته مفعمة به. وكانت إسرائيل، التي حالفها وحالفته، هنا في لبنان. وبعد أيّام على انتخابه رئيساً قضى بشير الجميّل بالطريقة المعروفة، وانتهى «الحلم» في نظر محبّيه و «الكابوس» في نظر خصومه.


وهذا ما يعرفه الذين عاينوا عن كثب تجربة رفيق الحريري، مع أنّها كانت أقلّ حدّة وخلافيّة من تجربة الجميّل. فهو أيضاً كان ممتلئاً بحقيقته، كما كانت جماعته ممتلئة به. وقد وجد الحريري دعمه في اتّفاق الطائف الذي سانده العالم العربيّ والعالم، وفي قوّة ماليّة جبّارة. وفي لحظة، قضى الحريري بطريقة بشعة أيضاً. وانتهى «الحلم» في نظر محبّيه و «الكابوس» في نظر خصومه.


فمن بديهيّات هذا البلد أنّ الحقيقة الواحدة لا تكفي، وأنّ الجماعة الواحدة لا تحمي. فهذا اللبنان يتّسع لـ 18 طائفة، و18 ثقافة فرعيّة، ويجاور النزاعين الفلسطينيّ – الإسرائيليّ والسوريّ – الإسرائيليّ، كما يتلقّى تأثيرات الخلاف الإيرانيّ مع الغرب وإسرائيل، تلقّيه آثار الصعود في الدور التركيّ. ومن كانت هذه حاله لا يستطيع العيش بالحقائق المطلقة، أو أنّه لا يستطيع العيش من دون نزع الإيديولوجيّات، أو أقلّه نزع جذوتها.


وربّما رأى البعض في لحظة من لحظات الانتشاء بالقوّة أنّهم لا يريدون هذا اللبنان. لكنّهم إذا أرادوه حقّاً لن يجدوا سبيلاً للحفاظ عليه إلاّ بالتسوية من حول الدولة، ومن حول الإقرار للدولة وحدها باحتكار العنف. وفي غياب هذه التسوية لا يلوح في الأفق إلاّ الطوفان. وهو اليوم قد يكون أكبر وأخطر من أيّ طوفان سابق. فالمأساة، إذا ما شُرّعت لها الأبواب هذه المرّة، تأتي تتويجاً للمآسي، لا تمهيداً لها، تاليةً على حروب وأحقاد وعلى دمار وعلى ديون لم تُسدّد بعد. وهي تجيء مصحوبة بشهوات مفتوحة للتدخّل والتدمير: فإسرائيل و «القاعدة» على مرمى حجر، وكلّ منهما يملك القدرة على تفكيك ما تبقّى من نسيج وطنيّ جامع، ناهيك عن الدم والتهديم اللذين سوف يلازمان أيّة مداخلة من هذا النوع.


فخيرٌ للعاقل، إذاً، أن يخسر القليل، حين لا يكون بدّ من الخسارة، من أن يخسر كلّ شيء، بما فيه الوطن نفسه. وغنيّ عن القول إنّ المنطقة العربيّة الآن تعيش موسم خسارة الأوطان. فواحدنا لن يجد في حركة التفكّك التي تسود المنطقة، من جنوب السودان إلى جنوب اليمن مروراً بشمال العراق، ما يُسند رأسه إليه. حتّى البلدان الهادئة ظاهراً لا تبعث على الاطمئنان، وقد جاءت الصدامات الأخيرة بين فريقين رياضيّين في الأردن تشي بحجم النار المقيمة تحت رمادنا.


والشعار اليوم، وأكثر من أيّ وقت مضى، هو: إمّا التسوية من حول الدولة وإمّا البربريّة نمارسها، وتُمارَس علينا، في الهواء الطلق.