بعض الأطراف، في الداخل وفي الخارج وبعض الأنظمة لم يقرأوا جيداً انتفاضة 14 آذار 2005. أو بالاحرى أرادوا ألا يقرأوها إلاّ قراءة "أمنية"، أو يفسروا أنها "مؤامرة أميركية إسرائيلية" أو يظنوها "طفرة عابرة" أو "رد فعل هشة"، أو مجرد حركة محلية وموضعية ضيقة. إذاً نفى اهل 8 آذار في الداخل وامتداداتهم ومرجعياتهم في الخارج ما جرى، من تظاهرات سلمية مليونية كانت تعبيراً عن رفض كل وصاية قائمة أو محتملة في لبنان، بعد أكثر من نصف قرن من الوصايات المتضاربة والمتتالية بتخلفها وعنفها وجشعها واطماعها وما نتج عن ذلك من إذلال للناس، واغتيالات ومجازر والتعرض للكرامات والزج في السجون ومصادرة الإرادة الشعبية، ونشر الفساد "المنظم" والمبرمج الذي على أساسه تمّ نهب خيرات هذا البلد، وضرب الإرادة اللبنانية والسطو على مقدرات البلاد، والسلطة والحكم والقرار، لم يفهم أهل الوصايات وفلولهم وخلاياهم واتباعهم في الداخل، ان كل الممارسات القمعية والعنفية والضغوط والترويع والترهيب ومصادرة السياسة والاستقلال والحرية والديموقراطية أدت إلى الانفجار الشعبي الكبير بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
لم يفهموا. ولم يفقهوا. وظنت الجماعات المدججة بأسلحة ولاية الفقيه وأموالها وعقيدتها الانقلابية، و"المُستدججة" بها أن "هيبة" التحرير يمكن أن تلغي هيبة الاستقلال. وان هيبة السلاح يمكن أن تعدم كل ما كان من شأنه ان يؤدي إلى حراك، أو إلى استمرارية، أو إلى بلورة خطوة لدى 14 آذار. لم يفهموا. ولهذا استمروا في لعبة التحدي والترويع والتهويل في سياق التحضير لالغاء مفاعيل 14 آذار وانجازاته وانتصاراته الشعبية، ظناً منهم باعتبار ان عقولهم النيرة الصادقة في "منارهم" الشفاف والمؤمن والوطني والمستقل وهي أمنية. جهازية أكثر مما هي استشفافية أو حتى سياسية. لم يفهموا. وظنوا أنهم من خلال مختلف انقلاباتهم الفاشلة ابتداء بحركة العميل العبسي "المعروف" وهو من عندياتهم والمساس به "خط إلهي أحمر" أن الأبواب عندما تفتح للناس يُصبح من الصعب اغلاقها. وأن تحطيم جدران الخوف لا يُنبت جدراناً أخرى إلا في نفوس الطغاة والاستبداديين والعملاء (الصدوقين بعمالتهم المعلنة على الملأ). لم يفهم اهل الداخل معاني 14 آذار الإجتماعية والنفسية والانسانية والفكرية. ومن جهالتهم وثقافة خضوعهم المتينة لأربابهم، انهم بعدما فشلوا في تغيير المعادلات الشعبية عن الأرض، أرادوا إحداث تغيير في المعادلات السياسية: أي في ميزان القوى، فكأن انقلابهم الأسود الذي يشبه خِرَق القمصان السود ومن غلمانهم الذين رموهم في وجه الناس، ترويعاً وتهديداً بـ "7 أيار " جديد ظنوا أن التعاطي مع انتفاضة 14 آذار عبر سلبها الأكثرية الانتخابية والحكومة (استتباعاً لمجلس النواب الذين اغلقوه كدكان خضار بتكليف محلي واقليمي مبجّل ومُهاب بأذنه تعالى) سيؤدي إلى تفككها وانفضاض الناس عنها، فاذا بتفكيرهم الأمني هذا (يشبه تشبيه نظام الولي الفقيه دام ظله ودام حرسه الثوري وباسيجه الشاهنشاهي)، تدحضه التظاهرة المليونية في 13 آذار والتظاهرة المئوية (100 ألف) في طرابلس.
ونظن أن هؤلاء، وبعقولهم "الجهازية" ظنوا ان القمع الوحشي الذي مارسه النظام "الإلهي" على الشعب الإيراني، قد يؤدي إلى النتائج ذاتها في لبنان، وقد وقعوا في الأخطاء والخطيئة. أولاً لأن الثورة الخضراء في إيران لم تنته. ثانياً، لأن هذه الثورة تعبر عن إرادة الأكثرية الشعبية في بلاد عمر الخيام، ثالثاً لأن للثورات جذوراً إذا غابت لحظة فلكي تخترق التراب وتشمخ شجراً وخضرة.
واللافت أن الثورتين المصرية والتونسية المظفرتين أصغتا جيداً إلى ثورة الأرز. وكان لهما أن تُفجِّرا ما اختزن داخل شعبيهما من استعادة للإرادة الجماعية وللخروج من قمقم العزلة والقبول، وتحطيم جدران الخوف التي رفعتها الأنظمة الاستبدادية. ثورتا الشباب في مصر وتونس قرأتا جيداً ما حدث في لبنان ونظن أن ثورتي اليمن وليبيا أصغتا أيضاً جيداً إلى ثورتي مصر وتونس. وكان ما كان، مع فارق ان النظامين في ليبيا واليمن أرادا ان يستخدما العنف والحرب والتهديد بالتقسيم.. والإبادة والقوى الخاصة والدبابات... أي عودة إلى ذهنية الانقلابات العسكرية. وإذا كانت الثورات العربية توحدت بانتماءاتها وبمطالبها وحتى بأساليب تحركها وشعاراتها ومدنيتها وسلميتها (مما أثار اعجاب العالم كله وأعطى صورة نموذجية عن الشعب العربي مغايرة للصورة المشوهة التي روجتها الأنظمة إلى الخارج والداخل عنه)، فإن بعض الأنظمة العربية (ذات العقول الأمنية قصيرة المدى) لم تفهم لا ثورة الأرز ولا الثورات الأخرى: ظنت أن أجهزتها ومخابراتها وقواها وعسكرها وإعلامها المضلّل قد وضعها في منأى عن تحرك شعوبها. أي ان كل نظام عربي كان يظن انه "استثناء" في هذه "العدوى" التغييرية وفي هذا التسونامي الشعبي الذي قل نظيره.
وهذا دل على مبالغة هذه الأنظمة بالثقة نفسها، والمبالغة (كالعادة) بضعف شعوبها... والقراءة السطحية لهذه الثورات المتتابعة والمتواشجة وفرت "أماناً" مزيفاً لهذه الأنظمة، وصورة خاطئة عن تقويمها لذاتها. إنها لعبة الشعوب اليوم لا "لعبة الأنظمة" فقط. باتت الأنظمة في المقلب الآخر تبحث عمن يُنجدها ومن يُنجيها من "القدرية" الثورية للشعب، بعدما كان الشعب على امتداد نصف قرن يبحث عمن يُنجده وينجيه من "قدرية" هؤلاء الطغاة والقتلة. صار الشعب العربي عائلة مفتوحة متواصلة ومتضامنة وموحدة بعدما كانت السلالات "الإلهية" المقدسة بمواريثها وعصبياتها تقسم هذا الشعب، وتستفرده، وتستشرسه بلا رحمة.
لم يفهموا 14 آذار 2005 جيداً. لم يفهموا أن الشعب إذا انفجر مرة فليس من الممكن أن يعود إلى شرانقه، ولم يفهموا أن 14 آذار اسقطت النظام الأمني المشرش بالقمع والعنف والاستبداد بقوة الناس، وبسِلميتهم. لم يفهم هؤلاء كم هو عنيف ونافذ ومخترق ومخيف ومهيب السلم الذي يضعه هؤلاء الناس عنواناً لانفاضتهم. لم يفهموا اشارات الأجساد والأصوات والأصداء والإعلام والطرقات والشوارع والمدن التي حُولّت ميادين للقائهم، في ساحة الحرية، وفي المساحات الأخرى. لم يفهموا شيئاً، وبدلاً من محاولة استشفاف ما جرى في 14 آذار 2005 وبعده، لجأوا إلى لغتهم الوحيدة التي يفهمونها ويُتقنونها وهي الالتفاف بالانقلابات والترويع والأسلحة على هذه الانتفاضة. وقد تناسوا (من هم في الداخل لا سيما حزب الله وفي الخارج) ان قوة ثورة الأرز مستمدة من مواجهة هذه الأساليب التي مورست على الناس طيلة نصف قرن. والغريب، انه إذا لم يفهم من في الداخل (وهو المقولب بلغة السلاح وهي لغته الوحيدة)، فالخارج أيضاً غابت عنه هذه الأشياء. نقصد ان هذه الأنظمة التي رفعت، شعار "القمع هو الحل" مع شعوبها، استمرت في انماطها وعاداتها، مقتنعة بأن القتل (بأشكاله المادية والمعنوية) هو مدماكها، فإذا تخلت عنه انهار النظام عليها. والعكس هو ما حدث عندما حولت الانتفاضات العربية أسلحة هذا النظام أو ذاك خردة، والجيوش والقوى الأمنية والمخابرات خرقاً وورقاً. ولأن هؤلاء الحكام لم يعوا ما يدور حولهم إلا عندما وصلت الموسى إلى ذقونهم، ضربوا أخماساً بأسداس! كأنما شعروا بأن الأمور تجاوزتهم. وانهم باتوا جزءاً من التاريخ المُولي. جزءاً من ماض تعيس. وعندما حاولوا تدارك الأمور بالطرق المعهودة ذاتها (من أرث الستالينية والفاشية) أي بالعنف والقمع، والبروباغندا النمطية، المعهودة وباتهام شعوبهم بالعمالة وبتلقي الأمول من الخارج، باحثين عن جهات "متآمرة" سواء من بلاد الغرب أو من البلاد القريبة، أو من الأهل والخُلان، لتشويه معاني ثورات شبابهم (كما فعل بعضهم مع ثورة الأرز بالأصوات ذاتها، والنفاق ذاته، والخوف ذاته، والعنف ذاته) فقد اكتشفوا ان قراءتهم للأمور لا علاقه لها بالواقع، وغير مجدية. عندها اكتشفوا أنهم كلما أمعنوا في لعبة القتل والحصار والاتهام ازداد إصرار المنتفضين على رفضهم، واشتدت أواصرهم وتصاعدت نبراتهم واتخذت مطالبهم مناحي جذرية أقلها الاصلاح الشامل.
الآلية ذاتها بعناصرها المشتركة شهدناها عند الأطراف كلها: الأنظمة والثوار. وعندما حاول بعض هذه الأنظمة الالتفاف على الوعود والمطالب وتنفيس المواجهة، ما كان من هذه الثورات إلا ان اصرت على النزول إلى الشوارع والساحات حتى بعد سقوط النظامين التونسي والمصري. وها هي التظاهرة المليونية في ميدان التحرير تعود بكل عنفوانها وطاقاتها تحت شعار "انقاذ الثورة". وهذا ما يجري ايضاً في تونس. وكذلك في لبنان بعد التظاهرة المليونية في 13 آذار لتذكير الجميع، بأن هذه الثورات حررت الشارع والميادين والساحات من محرمات وممنوعات "أنظمة الطوارئ" تماماً كما تحررت من عقد الخوف: فلننطلقْ! فالتظاهرات الشفافة المرئية المسموعة هي مفتتح عصر جديد نقيض لعصر الانقلابات الليلية بالدبابات والقتل، نقيض القمصان الكاكية، والبزات المدججة بالحقد؛ أنها الألوان تمشي في الشوارع وتراها لوناً لوناً. وهي الاعلام، لا صور الطغاة ولا أصنامهم، ترفرف فوق الجميعّ إذن، فَلْنُبادِئ كل يوم. كل لحظة، لتجديد الانتفاضة، ونظن أن هذه المبادأة الشبابية لا بد ان تواجه (اليوم أو في المستقبل) ما يسمى الثورة المضادة. "ثورة" بعض الأنظمة والأحزاب التابعة لها، للتآمر على انجازات الشباب العربي وانتزاع المبادرة منه. (أو ليس هذا ما كاد يحصل في مصر وتونس) أو ليس هذا ما كاد يحصل في لبنان منذ اللحظة الأولى التي اعلنت فيها انتفاضة الأرز. عندما عمدت فلول الوصايات إلى اللجوء إلى تلطيخ نقاء هذه الانتفاضة، والانقلاب عليها بالسلاح والتهديد والاغتيال والحصار والمؤامرات (حركة العميل العبسي ومن ثم 7 أيار التافه، من دون ان ننسى تهديد نواب البرلمان بالقتل، وكذلك اعتصامهم في الوسط، ومحاصرتهم الحكومة واغلاقهم مجلس النواب!) هذه "الثورة المضادة" (بالتنسيق مع الخارج وخصوصاً مع نظام ولاية الفقيه في إيران) لم تنفع. ارتدت إلى نحور مطلقيها. لكن أصحابها لم ييأسوا (بقوة اصرار الجهات البرانية التي تحركهم مالاً وسلاحاً وعقيدة تحت شعار سلاح المقاومة المقدس). وكان ان وصلت بهم الأمور إلى ابشع الأساليب: انتزاع الأكثرية بقوة سلاح المقاومة (دام ظلها!) وبالقمصان السود (دام لونها) والتهديد بالاغتيال وبالغزو! (هذا هو سلاح المقاومة اليوم) حتى اسقطوا حكومة الحريري وكلفوا ميقاتي. وها هي اليوم، في عهدة حزب ولاية الفقيه وفي "ظله" (أدامه الله للايمان وللوطنية وللولاء للشعب وللديموقراطية) يؤلفون حكومة افتراضية. حكومة كشفت انهم "رجال دولة" افتراضيون ورجال تسلط مشهورون. ومع هذا لم يكفوا عن حملاتهم المنظمة ضد ثورة الأرز لتبرير فشلهم، وغبائهم وحساباتهم الضيقة وسقوط استراتيجيتهم لوضع اليد على البلد... وتسليمها إلى رعاتهم في إيران وسواها!
والغريب أن هؤلاء، ومن ضمن الاستمرار في سياسة قلب الحقائق، والالتفاف على انجازات 14 آذار وتقطيرها وتفتيتها (بعد الثورة المليونية في 13 آذار الماضي) يستخدمون الأساليب المستوردة ذاتها: اشاعة الفوضى والعودة إلى خطف الأجانب وتفجير الكنيسة (نتذكر جيداً تفجير كنيسة سيدة النجاة في زحلة ومن كان خلفها). السحن والوجوه والأيدي ذاتها سبحان الله! وتحريك الفوضى (استغلال معاناة سجناء رومية) للتغطية على فشلهم، وكذلك على ما يجري من أحداث ثورية في المنطقة العربية فان نشر الخراب في لبنان يموه ما يجري، أو يكون "منصة" لرسائل توجه إلى الخارج (رسائل الغربان السود) استنجاداً وتوسلاً! وهو منطق مجمل الأنظمة التي تساقطت والتي في طريقها إلى السقوط: نحن أو الفوضى. نحن أو الخراب. نحن أو الحروب الأهلية. نحن أو الفتن. وكأن هذه الأنظمة المعروفة نسيت أن استمرار وجودها هو الفوضى. والخراب والفتن. نسيت أن استمرار وجودها هو المؤامرة بعينها! معظم الأنظمة العربية هي ما تبقّى من عار على جباه شعوبها العربية إذا لم تستمر هذه الأخيرة في ثورتها وتطيح هؤلاء "من الأبد إلى الأبد"!
|