التاريخ: كانون ثاني ٢٦, ٢٠١٦
المصدر: جريدة الحياة
لا ثوار 25 يناير ملائكة ولا سواهم شياطين - عزمي عاشور
تندهش من هذه التقسيمات القطعية للبشر في مصر المحروسة، التي أصبح أسهل شيء فيها اختصار الإنسان في جملة من التوصيفات التي تحمل تهماً واستبعاداً، وكأن من يطلقونها لا يقعون تحت هذه العادة الذميمة.

وهو الأمر الذي أدى إلى إشعال الرأي العام، سواء بإعلامه أو بفضائه الإلكتروني، بحرب بين هذه الأطراف بتسمياتها المختلفة ما بين فلول وإخوان وثوار. وباتت لكل واحد تهمته، فمن كان ينتمي إلى نظام مبارك وفاز في الانتخابات الأخيرة أصبح في وجه الآخرين عاراً على المجتمع، في مقابل من ظل مفتخراً بانتمائه إلى سياق النظام المباركي متهماً الثوار بأنهم كانوا متآمرين على المجتمع بأيدي خارجية.

توازت مع هذه أيضاً تقسيمات ما بين أنصار 30 حزيران (يونيو) والإخوان، وصارت على النهج التعبوي نفسه. المهم بتنا نعيش في دائرة مفرغة لتبادل الاتهامات وتحميل الأخطاء والنبذ بالانتماءات السياسية، متناسين أننا كلنا عشنا هذه المراحل سواء في عهد مبارك ومروراً بمراحل الثورة المختلفة.

وهنا تبرز قيمة الأفكار التي دشنها مفكرو العقد الاجتماعي بأنهم انتصروا لفكرة الدولة والقانون في الحكم الذي أصبح العقد والوسيط ما بين المواطنين والذين يحكمون، فضلاً عن المؤسسات التي تنفذ هذه العملية. فالقيمة الكبرى لهذه الفلسفة أنها لم تترك المجتمعات عرضة لهذه الحروب الطائفية والفردية لتصفية الحسابات ما بين الأفراد على اختلاف انتماءاتهم الأيديولوجية، فلا يحاسب الفرد على انتماء وإنما يحاسب على جريمة أمام القانون، ولا يتم التمييز بين فرض لانتمائه الديني أو السياسي وإنما هو يتمتع بالحقوق كافة كمواطن يعيش بين أفراد مختلفين.

ومن هنا وجد الإطار العام الذي يقبل الاختلافات من دون الاعتداء على القيم العامة للمجتمع الذي يعيشون فيه. وهذا هو أعظم انتصار لفكرة الدولة التي تترجم العلاقة بين الحاكم والمحكومين في إطار من العقد الاجتماعي الذي يحمل التزامات وواجبات بين الطرفين. ومن هنا، وفي ضوء هذه المعادلة، يصعب عزل مواطن من الناحية السياسية لانتماءاته. فالفيصل هنا هو القانون بكونه لم يرتكب جرماً مخالفاً له.

في مصر تمت محاكمة عدد كبير من رجالات نظام مبارك وما زالوا يحاكمون، وفي الانتخابات الأخيرة ترشح بعض من كان ينتمي إلى حزبه ونجح، وهو ما أثار بعض الذين يحتكرون الحديث بثورة 25 كانون الثاني (يناير) على رغم أن الملايين هي التي قامت بها. والأمر نفسه ينطبق على الذين ينتمون إلى الإخوان على رغم ارتكاب عدد منهم لجرائم عنف وقتل وتخريب، إلا أنه ليس كل من هو إخواني يجب تعميم التهم عليه، فالفيصل هنا هو القانون.

وإذا عكسنا الأمر وطبقناه على أنصار 25 كانون الثاني (يناير) التي دخل شباب منهم السجن على أثر مخالفة قانون التظاهر فيجب أيضاً ألا يُنظر إلى هؤلاء المئات من بين الملايين التي اشتركت في الثورة على أنهم هم فقط الذين ضحوا، وأن أنصار النظام القديم أو الفلول على حد التسمية التي أطلقت عليهم، يجب أن يختفوا من الحياة السياسية. المنطق نفسه قد يحمله أعداء الثورة نفسها الذين يطالبون بمحاكمات لشبابه بدعوى أنهم متآمرون من الخارج.

وما يميز المجتمع المصري هنا هو أنه تتفاعل في داخله طبقة متوسطة كبيرة تحمل ميزان الاستقرار المجتمعي في جو هذه التقلبات والاتهامات. ومن المفارقات أن معظم هذه الطبقة تعمل بمؤسسات الدولة ويتعلم أبناؤها في مدارسها وجامعاتها، والثوار وأصحاب الحركات الاجتماعية السابقة للثورة كانوا هم جل أبنائها الذين استفاد معظمهم من الخدمات التي قدمتها الدولة. فضلاً عن كونها تحمل التباينات الأيديولوجية والدينية كافة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وإن غلب على معظمها الطابع المعتدل الذي يمثل هذه الشخصية المصرية.

ما نريد أن نصل إليه هو أن الدولة المصرية، على رغم اتهامات الاستبداد وحكم الفرد، فإن قِدمِها ومركزيتها جعلاها تضع يدها في إطار نظام الحكم على قيم ومبادئ فلاسفة العقد الاجتماعي، سواء في وجود المؤسسات ووجود القضاء وحكم القانون إلى حد ما وغيرها. ذلك كله جعل هناك شخصية معنوية للدولة المصرية يمكن من خلالها أن تحاسب من يرتكب الجريمة على جرم ارتكبه بعيداً من الاتهامات الأيديولوجية والتشنيعات السياسية. فكل فرد حر في انتمائه، ولكن ليس حراً في مخالفته القانون. وعلى رغم أن هناك محاولات، لظروف التفاعلات فيها، أن تخرج مصر من هذا الإطار الذي لم تبلغ فيه الوضع المثالي كغيرها من الدول الحديثة، إلا أنها تستطيع أن تحقق في المستقبل نتائج إيجابية في طريق دولة المؤسسات وحكم القانون.

ومن هنا، فهل فعلاً ثوار 25 كانون الثاني ملائكة ومن كان قبلها شياطين، ما دام هناك كيان يحمل الصيرورة للدولة التي تمكن محاسبتها في حال الخروج على النص وفقاً لعقيدة العقد الاجتماعي الذي بينها وبين المجتمع، في الوقت الذي كان من حقها أن تحاسبنا بالقانون في حال مخالفتنا له لإضرارنا بمصالح الأفراد أو المصالح العامة.
 
 
* كاتب مصري