التاريخ: كانون ثاني ٢٤, ٢٠١٦
المصدر: جريدة الحياة
ألستَ تبالغ كثيراً يا عزيزي فلاديمير؟ - عمر قدور
لا تخفي السياسة الروسية نفسها في سورية، فالحل السياسي الذي تريده موسكو لا يطمح فقط إلى إبقاء الهيكلية الأساسية للنظام، هو يهدف إلى الإبقاء عليه بأكمله، أي الإبقاء عليه بعيداً تماماً من سكة التحول الديموقراطي. حتى المعارضة التي يُفترض أن تشارك في ترميم النظام ليستعيد عافيته تريدها موسكو في «جيبها»، أي ضمان استبعاد المشاغبين مسبقاً معتمدة على شخصيات لم يكن لها ماضٍ في المعارضة، أو حاضر على أدنى تماس بالثورة، شخصيات لا تملك وزناً سياسياً أو تمثيلياً باستثناء رئيس الاتحاد الديموقراطي الكردي صالح مسلم، الذي لا يجوز الطعن في حيثيّته كسلطة أمر واقع في المناطق الكردية، ويصعب استثناؤه من مفاوضات جادة، عندما يُراد لها حقاً تقرير مستقبل مختلف لسورية.

وحدها السياسة الروسية تبدو متكاملة، فطيرانها يستهدف فصائل المعارضة التي تصفها جميعاً وزارة الخارجية بالإرهاب، وتعمل استراتيجيتها العسكرية على تدمير المناطق المحاصرة بمن فيها من مدنيين ومقاتلين، بينما تحاول قطع الإمدادات عن مناطق أخرى، بما فيها قوافل الإمدادات الغذائية. لا يكفي القول أن الغارات الروسية منذ بدء العدوان أوقعت أكثر من ألف قتيل مدني، فالغارات أيضاً استهدفت البنية التحتية في المناطق كافة وأبقت بعضها بلا مستشفيات، وحتى بلا مرافق خدمية أساسية كالماء.

في المقابل، لا تظهر هناك استراتيجية متكاملة من جانب ما يُسمى «أصدقاء سورية»، ولم يحدث أي تطور نوعي ملموس على إمدادات فصائل المعارضة، بل يُرجح أن تكون إمدادات الصواريخ المضادة للدروع توقفت أو شحّت كثيراً في الجبهات التي تقدمت فيها قوات النظام. أيضاً، لم تظهر أية بوادر تدل على تنسيق مستجدّ بين داعمي فصائل المعارضة، إذ لا تزال كل مجموعة منها تخوض حربها الدفاعية في مناطق سيطرتها، وعلى نحو منعزل يدل على انعدام التنسيق في مواجهة حرب قوات باتت خاضعة لتخطيط روسي مركزي.

الأهم، أن موسكو تعمل بالمبدأ الكلاسيكي المعروف، حيث تعكس المفاوضات واقع القوى العسكرية على الأرض، الأمر الذي يتجاهله «أصدقاء سورية».

لا يكفي لمواجهة الاستراتيجية الروسية القول بأنها تتقدم ببطء، وبتكاليف مرتفعة، ولا يكفي القول «مجرد القول» بأن موسكو غير جاهزة لحرب استنزاف طويلة وهي في أمسّ الحاجة إلى حل سياسي ينقذها من ورطتها. هذه الأقوال إما تجهل أو تتجاهل الوقائع على الأرض، حيث يتقدم الروس نحو تطويق المعارضة في الشمال، مثلما تجهل أو تتجاهل طبيعة الإدارة الروسية التي لم تذعن من قبل للضغوط الناعمة، ولم تعترف بالخسائر إلا عندما تتحول إلى هزيمة مجلجلة. ما قد يكون متاحاً ميدانياً لمواجهة العدوان الروسي قد لا يكون متاحاً بعد أشهر قليلة، هذا هو رهان موسكو على الوقت الذي ستستغرقه مفاوضات جنيف، وإن لم يكن الرهان الوحيد.

تتصرف موسكو على أنها تملك تفويضاً عاماً، فالصمت الأميركي على تدخلها العسكري يشي بالموافقة، وما يُشاع عن خلاف بين موسكو وطهران يكذّبه التنسيق المستمر بين الميليشيات الشيعية والمقاتلات الروسية، أما التنسيق العسكري المستمر مع إسرائيل فتم تأكيده في غير مناسبة. على صعيد متصل، تحاول موسكو إظهار حيازتها موافقة دول الخليج، ما دام وجودها في سورية على حساب النفوذ الإيراني، ولم يكن من باب المصادفة نشاط الديبلوماسية الروسية في اتجاه هذه الدول قبيل التدخل وبعده، مع محاولة عزل تركيا التي ليست طرفاً أساسياً في ما يُسمى الصراع الشيعي - السني، لكنها طرف أساسي في الصراع السوري. في ذيل القائمة، يأتي التفويض الذي حصلت عليه من النظام، وأُعلنت بنوده أخيراً، لكن تسريبه أتى لتأكيد الوصاية الروسية المستمرة ما لم تتغير الظروف الدولية.

رهان موسكو في المفاوضات، فضلاً عن استثمار مدتها لتحقيق إنجازات ميدانية، أقل ما يمكن من مشاركة المعارضة في النظام، مع الحفاظ عليه تماماً، والحصول على تغطية دولية وإقليمية للنظام المتجدد. تنظر موسكو إلى ما بعد الانتصار العسكري الذي تراه شبه مضمون حتى الآن، ولا تهمها تكلفته البشرية من قوات النظام، أو من أرواح المدنيــيــن في مناطق سيطرة المعارضة، فمـــوسكو تعلم أن استعادة السيطرة العسكرية غير كافية، ولن تكون قادرة علـــى الالـــتزام كسلطة وصاية بالمتطلبات الاقتصادية لإعادة بعض الاستقرار.

الحديث هنا هو عن حوالى 500 بليون دولار، هي خسائر الاقتصاد السوري في السنوات الخمس الأخيرة. أقل تقدير وضعته الإسكوا قبل سنة كان نحو 360 بليون دولار. هذا هو الثمن المطلوب لقاء مشاركة المعارضة في ترميم النظام الحالي، ويكاد هذا يكون هو الهدف المستقبلي الذي يدفع موسكو إلى المفاوضات، والثمن مطلوب من دول الخليج تحديداً لقاء أمرين: تحجيم النفوذ الإيراني في سورية ومشاركة شخصيات مقربة من دول الخليج في السلطة الجديدة، مع احتفاظ موسكو باليد الطولى في النظام. هذا التصور يشبه أدوار دول الإقليم في لبنان زمن الوصاية السورية، ويفترق عنه لجهة عدم قبول موسكو بنظام محاصصة يعطّل هيمنتها.

بخلاف من يُنذرون موسكو لفظياً بمستنقع سوري، هي حالة نادرة أن يُعترف بها فائزة منذ اليوم الأول للتدخل الروسي المباشر، الأداء الروسي المتعنت والمتعجرف في الأشهر الثلاثة الماضية ارتكز على إقرار الآخرين بالفوز الروسي. المقارنة مع أفغانستان لا تصلح، فموسكو تجاوزت الجرح الأفغاني في أوكرانيا، بينما الغرب هو من يظهر تصميماً على عدم تحمّل مسؤولية درس أفغاني جديد. مع ذلك، تدرك موسكو أن لديها مهلة محددة تنتهي مع الإدارة الأميركية الحالية، وعليه ستحاول جاهدة حسم المعركة خلال السنة الحالية، وتثبيت وضع مستدام لا تستطيع الإدارة المقبلة زحزحته بسهولة.

من المتوقع أن تستهلك موسكو الأشهر الستة الأولى في الابتزاز السياسي، مع محاولة التقدم ميدانياً والسيطرة على المنافذ الحدودية السورية. بعدها، بالتزامن مع اقتراب موعد انتخابات الرئاسة الأميركية، ستسعى إلى حل سياسي يؤكد هيمنتها على سورية، ويُبقي نموذج النظام الذي تفضّله. هل الطريق ممهد أمام الطموح الروسي؟ موسكو تراه كذلك، ما لم يتصل أحد قادر على مواجهة بوتين قائلاً: ألست تبالغ كثيراً يا عزيزي فلاديمير؟