منذ زمن لم يعد مفهوم الشهادة يقتصر على الذين يقتلون في سبيل العقيدة الدينية، إذ بات يشمل الأشخاص الذين يضحون بحياتهم في سبيل مواقفهم وآرائهم السياسية على أنواعها. هذا التعميم يستمد شرعيته من الحديث الشريف: «من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد»، أي أن هذا ينطبق على أي إنسان، مهما كان دينه، أو مذهبه، أو فكره أو جنسيته، كما ينطبق على صراعات السياسة والمكانة والسلطة، وضمنها صراعات التحرر الوطني.
على ذلك يبدو مفهوماً، وعادياً، أن يغدو من حق أي جماعة تمجيد من يقتل في سبيل ما تعتقده، وأن تعتبره شهيدها، سواء في الصراعات الطبقية أو الأهلية، وفي الصراعات على السلطة وحروب التحرر الوطني. هذا ينطبق على الفلسطينيين، وعلى إسرائيل، كما كان ينطبق في لبنان على الحركة الوطنية وما كان يوصف بالجبهة الانعزالية، وينطبق اليوم على أطراف الصراع السوري، فلا أحد يستطيع منع أحد من إطلاق صفة الشهيد على آخر يقتل وهو في صفه، ولو قضى في حادث سيارة أو عرضاً.
فالجدل في هذا الأمر عبثي، ولا جدوى منه، كما شهدنا، مثلاً، في النقاش حول سمير القنطار وزهران علوش. وكان الأجدى لو أن النقاش الحاصل تمحور حول حقيقة الشخص المعني، فكره وممارساته، بدل التركيز على إسباغ صفات الشهادة عليه، وكأن الشهادة «تجبّ ما قبلها». سيرة القنطار، مثلاً، تحيلنا على فتى زجّ في عملية فدائية، وعمره 16 سنة، أي قبل أن ينضج كشاب، ما يفترض محاكمة هذه التجربة ونقدها، بدل التمجيد الساذج لها أو إسباغ صفات القيادة على فتى طري العود لم يمارس منها شيئاً في سجنه المديد (مع التقدير لروح التضحية عنده وقتذاك). كما يدعونا ذلك إلى الذهاب نحو تقويم هذا النوع من العمليات وجدواه في التجربة التاريخية، تماماً مثلما تم نقد تجربة خطف الطائرات، والغرق في الحرب اللبنانية، وانتهاج نمط العمليات التفجيرية، وغير ذلك.
إضافة إلى هذا وذاك كان يفترض تفحّص تجربة القنطار ونقد التحول الحاصل عنده من مناضل من أجل التحرير الى رجل بات يدافع عن نظام استبدادي، ومن مقاتل في حركة وطنية إلى مقاتل في صفوف حزب طائفي، مع استعداده للمشاركة في قتل شعب آخر (وفق تصريحاته هو)، مع ما يكشفه كل ذلك من استهلاك وانتهاك حركات التحرر الوطني لمعنى الحرية في قصرها على مجرد تحرير الأرض، أو ادعاء ذلك.
في المقابل، وبدلاً من تمجيد زهران علوش الذي بات في رحمة الله، كان يفترض نقد تجربته، لا سيما أن عليها كثيراً من الملاحظات، وعدم الاكتفاء بسردية واحدة فقط، تتعلق بكونه معارضاً للنظام، إذ ثمة سرديات أخرى، ضمنها أن الجماعات العسكرية الإسلامية شكلت انشقاقاً في الثورة السورية، في معناها وماهيتها وأغراضها، باعتبارها ثورة ضد الاستبداد، ومن أجل المواطنة والحرية والديموقراطية. وهذا علماً ان زهران لم يعترف بالثورة، ولا بعلمها ولا بمقاصدها، بل صرح مراراً وتكراراً بأن «الديموقراطية تحت قدميه». زد على ذلك ان تجربة «المناطق المحررة»، وضمنها تجربة الغوطة، لم تكن ناجحة، مع معرفتنا بما يسمى «المحاكم الشرعية»، وسجون التوبة، والمظالم التي نجمت عن ذلك، وتقييد النشطاء المدنيين، والتحكم بالمواد التموينية، وفرض نمط معين من العيش، ومع علمنا أيضاً بالتظاهرات التي خرجت في الغوطة ضد هذه الممارسات السلطوية.
وما حصل في الغوطة حصل في كثير من المناطق المحررة الى درجة ان المعارضة السياسية لم تستطع ان تفتح مكتباً لها فيها، وحتى النشطاء الذين حملوا الثورة في بداياتها تم التنكيل بهم او «تطفيشهم»، ويأتي ضمن ذلك الشبهات التي تحوم حول علوش في قصة اختفاء رزان زيتونة ورفاقها.
الآن، ومن دون التقليل من شأن علوش، أو التقليل من أهمية معارضته للنظام السوري، ينبغي التساؤل عن نوع السلطة التي كان يمكن ان يأتي بها هو ومَن هم على نمطه؟ وهل من أجل هكذا سلطة ثار السوريون ودفعوا كل هذه الأثمان الباهظة؟ وهل من حق أي جماعة مسلحة معارضة ان تفرض رأيها، أو لونها، او خياراتها، على شعب سورية؟ طبعاً القصة هنا لا تتعلق بالاسلام، لأن ثمة قوى إسلامية تختلف مع زهران، إذ إن «الإخوان المسلمين» لديهم رؤية لدولة مدنية ديموقراطية هي دولة مواطنين متساوين (كما جاء في وثيقة العهد والميثاق التي أصدروها في آذار (مارس) 2012، فيما زهران لم يصل إلى هذا الحد.
على أية حال، الجدل الحاصل حول مكانة كل من القنطار وعلوش، يفتح على مشكلات عندنا، ضمنها ضعف ملكة التفكير النقدي، وغلبة الروح العاطفية، والمبالغة في الشكليات على حساب الاساسيات، كأن العمل الجيد يمحو أثر العمل السيء او يغطيه، وهو ما يتناقض مع الواقع والحقيقة. ووفق منطوق الآية القرآنية: «فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره»، وهذا يعني أن لكل جزئية او حيثية حسابها الخاص، وأن لا احد فوق النقد، وأن المعيار في كل هذه المسائل يتعلق بمدى اقتراب الشخص من قضايا العدالة والحرية والمساواة والمواطنة.
أخيراً، بديهي أن هذا النقاش لا يغفل أن القنطار ذهب ضحية إسرائيل، وهذه ليست قوة خير او قوة سلام في المنطقة، وأن زهران ذهب ضحية روسيا التي باتت بمثابة قوة احتلال لسورية، وبمثابة قوة شريرة ومدمرة فيها، ما يعني أن الطرفين لا يشتغلان لمصلحة شعب سورية، ولا لمصلحة الاستقرار في هذا البلد. |