التاريخ: كانون ثاني ٤, ٢٠١٦
المصدر: جريدة القدس العربي
مراجعة نهاية عام 2015- عام الفوضى غير الخلاقة - عبد الحميد صيام
إن مراجعة سريعة للعام الذي أرخى سدوله للتو، تثير كثيرا من المواجع والقهر والإحباط على ما آلت إليه أحوال أمة تتمزق وتتقــــزم أمام عيون العالم، وكان من المفروض أن تكون «خير أمة أخرجت للناس».

تشيد الحضارة وتنشر العلم وتحمي سيادتها وتقارع عدوها وتبلسم جراح مواطنــــيها وتغيـــث من يطلب الحماية وتوزع فائض ثرواتها على الإخــــوة والأصدقاء والمحتاجين وأبـــــناء السبيل والمساكين والفقراء، لكن الواقع شيء والأمنيات شيء آخر.

وكما عودت القراء سأتوقف عند بعض محطات قلقة التي تعكس حالة البلاد والمأزق الذي تمر فيه، وإذا كان هناك من مخرج من النفق المظلم الذي دخلنا فيه، سواء في سوريا أو العراق أو اليمن أو ليبيا أو مصر أو فلسطين أو لبنان أو السودان.

لقد بدأت أكتب هذه المراجعة السنوية مع بداية ما سمي بـ»الربيع العربي» فأطلقت على مراجعة عام 2011 «عام التحولات الكبرى وعام الشباب العربي بامتياز»، حيث بزغت في ذلك العام براعم أمل توحي بربيع مقبل، لكن مراجعة نهاية عام 2012 شهدت تغول الطغاة وإصرار بعضهم على التمسك بالكرسي، حتى لو أبيد شعب بكامله. كما شهد ذاك العام دخول دولة النفط الكبرى في المعركة لتجريم المطالبة بالحرية والديمقراطية والتعددية وإنهاء أنظمة الفساد والقمع، فسميته «عام الصراع بين المواطن والطاغية والسلطان»، أما مراجعة نهاية عام 2013 فقد شهدت انتشار الجماعات المتطرفة التي ولغت في دماء المواطنين إلى جانب الطغاة فوقع «المواطن العربي بين مطرقة الطاغية وسندان التكفيري»، كما سميته آنذاك. أما عام 2014، الذي شهد تفكك الدول والإعلان عن أكثر من خليفة وأمير ودولة، فأطلقت عليه عنوان «تفكيك الدولة الوطنية وتونس الاستثناء». لم أجد أفضل ما أطلق على عام 2015 من اسم «عام الفوضى غير الخلاقة»، حيث تعم الفوضى في أكثر من بلد وتنتشر الحروب البينية، وتفرخ الساحة مجموعة من الدواعش التي تحز الرقاب وتنتهك الأعراض وتدمر التراث، وكل ذلك باسم الإسلام الذي تحول إلى رخصة لكل الموبقات التي ترتكب في غالبيتها الساحقة ضد المسلمين.

لقد استمر تفكك الدولة الوطنية خلال عام 2015 وتغولت الحروب الطائفية وتمددت الجماعات التكفيرية لتنشر موجات الرعب والفوضى في أكثر من بلد وأكثر من قارة، وتطوع انتحاريوهم لينشروا الرعب في أوروبا وأمريكا ولبنان وسيناء والعراق واليمن وليبيا وتونس ومالي ونيجيريا وباكستان وأفغانستان وباسم الإسلام. وللعلم، إذا كان الضحايا الأبرياء عربا ومسلمين فلا بأس ولا أحد يهتم ولا يترك قتلهم أثرا أو تحركا أو قرارا في مجلس الأمن. أما عندما تسيل دماء بريئة غربية، فالأمر مختلف تماما. الدنيا تقف على أصابعها وكأن جميع المسلمين في العالم أجمع شاركوا وخططوا ونفذوا الجريمة النكراء. محطات التلفزة العديدة تقطع كل برامجها وتجد مادة دسمة ليل نهار لشيطنة العرب والمسلمين بدون استثناء، بل تزداد شعبية كل من يغالي في تجريم المسلمين وتهميشهم والتشكيك في نواياهم، بل وصل بأحد الصاعدين إلى الشعبية على أكتاف تجريم المسلمين أن طالب بمنع أي مسلم من دخول بلاده لا معزيا ولا مهنئا. كل هذا وأصحاب السعادة والفخامة والسيادة والجلالة يمارسون حياتهم اليومية، وكأن الأمر لا يعنيهم، وأن الأزمات التي نتكلم عنها موجودة في كوكب آخر. وتعالوا معي في جولة قصيرة ثلاثة مواقع فقط من بين هذا الركام.

فلسطين ـ تغييب شامل للقضية

ستبقى جريمة إحراق الطفل علي دوابشة ووالدته ريهام ووالده سعد يوم 31 يوليو علامة فارقة لهذا العام، الذي شهد انفلات الوحشية الإسرائيلية التي يمثلها المستوطنون، الوجه الأبشع والأكثر دموية لهذا الكيان المارق، فراحوا يمارسون شهية القتل بلا رادع ويرقصون فوق جثث الضحايا كما فعلوا في «عرس الدم» في بلدة دوما نفسها وهم يرفعون السلاح ويحملون صورة الرضيع ويطعنونه مرارا يوم 23 ديسمبر، كما بثته القناة العاشرة. لقد مارس الكيان بكل تجسيداته الإجرامية هذا العام شهية القتل المنفلت من كل عقال أثناء هبة القدس، التي أثبتت للمرة الواحدة بعد الألف أو المليون أن الحلول التي يطرحها هذه الكيان على الشعب الفلسطيني تتراوح بين القتل والنفي والسجن، لكن أصحاب نظريات المفاوضات إلى الأبد لا يتعلمون لا من التاريخ ولا من الجغرافيا ولا من السياسية ولا من دماء 142 ضحية، 28 في المئة منهم من الأطفال، منذ أكتوبر ولغاية نهاية العام.

في عام 2015 قد يكون رفع العلم الفلسطيني أمام مبنى الأمم المتحدة يوم 30 سبتمبر بقرار من الجمعية العامة، المناسبة الوحيدة التي لفتت بعض الانتباه من وسائل الإعلام بسبب رمزيتها. لكن الحقيقة أن هناك تجاهلا متعمدا وشاملا تجاه القضية الفلسطينية خلال عام 2015. الرئيسان الروسي والأمريكي، بوتين وأوباما، لم يتطرقا في كلمتيهما أمام الجمعية العامة ولو بكلمة واحدة عن فلسطين. كما أن بعض الدول العربية ومنها من يرأس لجانا تتعلق بفلسطين غابت فلسطين تماما عن كلماتهم أمام الجمعية العامة. مجلس الأمن الدولي خلال هذا العام لم يصدر عنه إلا بيان يتيم حول القدس وحوادث الأقصى، وقد قام الفرنسيون بمحاولة إصدار بيان رئاسي يتضمن مسألة الحماية فأجهضت المحاولة، ثم وزعت نيوزيلندا مشروع قرار ضعيف كي يرضى عنه الأمريكان، إلا أنهم أيضا قاموا بخنق المحاولة ووأدوا مشروع القرار في المهد. أما الأمين العام الطائر، كما نسميه هنا لكثرة أسفاره، فتعمد ولأول مرة أن يغيب قضية فلسطين تماما في ملاحظاته الافتتاحية لمؤتمره الصحافي السنوي بمناسبة نهاية العام. وعندما قفش متلبسا بعد اعتراض «القدس العربي» على هذا التجاهل تلعثم وتمتم وراح يذكر بزيارته للمنطقة لحث القيادات الإسرائيلية والفلسطينية لاستئناف المفاوضات. وكأن 22 سنة مفاوضات لا تكفي. العالم أشاح بوجهه عن الضحايا الذين يسقطون يوميا والاستيطان متواصل وبعنجهية غير مسبوقة، والحصار على غزة لم يكن في أي وقت مضى أشرس منه الآن، بسبب فكي الكماشة المتفقين على تعميق الحصار، بل تجاوز أحدهما حدود المعقول بقتل الصيادين والمختلين عقليا للإمعان في تقديم الولاء للشريك الاستراتيجي في الأمن لعله يساهم في إعادة تأهيله دوليا.

اللجنة الرباعية عقدت جلستين أو ثلاثا ولا نعرف أسباب تلك الاجتماعات ولا ما أسفرت عنها، كأنها الصفر إن ضربته في أي رقم لا يخرج عنه إلا صفر مثله. السلطتان العتيدتان في رام الله وغزة أصبحتا عبئا ثقيلا على المواطنين، وأفضل ما يمكن أن تقدماه للشعب الفلسطيني هو الانكفاء. أتركوا هبة الأقصى تأخذ مجراها العفوي بدون استثمار من فصائل أو قيادات. فأخطر ما يمكن أن يتعرض له المناضلون والمناضلات هو تجيير نضالهم الأصيل لصالح قائد لا يقود أحدا وفصيل لا يستطيع أن يجمع مئة متظاهر.

سوريا – نصف الشعب إما لاجئ أو مشرد

لقد شهدت الساحة السورية ثلاثة تطورات مهمة، أولها التدخل الروسي وقيام بوتين بدور صاحب القرار والآمر الناهي بسوريا. من جهة أخرى اعتمد مجلس الأمن بالإجماع يوم 18 ديسمبر القرار 2254 الذي يمثل خريطة طريق لحل سياسي للأزمة بعد أربعة فيتوات مزدوجة، وهو ما يشير إلى أن الأوضاع في سوريا مرشحة للحل بعد قناعة أطراف الحروب بالوكالة أن إسقاط النظام بالقوة غير مسموح به روسيا، وأن انتصار المعارضة المعتدلة غير ممكن، في ظل تمدد تنظيم «الدولة» وجبهة «النصرة» وما بينهما من جماعات تحارب باسم الإسلام. أما التطور الثالث فهو تفاقم الأزمة الإنسانية خلال هذا العام بشكل غير مسبوق، فقد بلغ عدد الذين شردوا أو هجروا هذا العام ضعف أعداد 2014، حيث أصبح نصف الشعب السوري الآن بين مشرد وقتيل. فمثلا في شهر نوفمبر فقط نزح 121500 سوري من محافظات الشمال. وصل عدد الأطفال السوريين المنقطعين عن الدراسة أكثر من أربعة ملايين طفل. ولا يتجاوز عدد الطلاب السوريين اللاجئين في لبنان في المراحل الثانوية 5٪ فقط. لقد حصدت المذابح هذا العام ما يزيد عن 21000 ضحية من بينهم 2592 طفلا و1957 امرأة، 73 في المئة من الضحايا سقطوا على أيدي النظام و8.3 ٪ على أيدي «داعش» و 6.5٪ على أيدي المعارضة المسلحة و5٪ سقطوا بسبب الغارات الروسية، أي ما عدده 832 ضحية. تداولت الأيادي على قتل السوريين وغالبيتهم الساحقة من المدنيين من كل الجهات.

غارات سلاح الجو الروسي آخر المنضمين لطابور قتلة الشعب السوري، وقد اصطادت مؤخرا زهران علوش الذي، على حد علمنا، ليس مصنفا من جماعة «داعش» أو «النصرة»، ويبدو أن قتله جاء ردا على الانتقادات الحادة من قبل حلفاء روسيا على تغاضيهم أو تآمرهم على استهداف القائد التاريخي سمير القنطار من قبل العدو الصهيوني.

يحدونا نوع من الأمل الحذر أن عام 2016 قد يشهد انفراجا في الأزمة السورية. لقد تعب الجميع ولم ينتصر أحد وخسر الشعب السوري وحده كل شيء. أصحاب الكراسي ما زالوا على كراسيم والتنظيمات المسلحة ما زالت تمارس القتل والتدمير والتحالفات الكبرى أقسمت أنها ستهزم «داعش»، فهل سنرى شيئا من النور في نهاية النفق السوري؟

اليمن ـ على أي جانبية يميل؟

إن السبب الرئيس لأزمة اليمن وما آلت إليه الأوضاع في هذه البلد العزيز هو علي عبد الله صالح وجارة اليمن الكبرى. فقد قام الشعب اليمني بكامله، بمن فيهم الحوثيون، ضد هذا الطاغية الأرعن الذي فتت اليمن وباع سيادتها وأدخلها في عشرات الصراعات في الجنوب والشمال وحضرموت، وغض الطرف عن دخول «القاعدة»، بل ساهم في انتشارها لابتزاز الولايات المتحدة، وأباح الجنوب عام 1994 لجنوده بفتوى من الزنداني، وحارب الحوثيين منذ عام 2004 وطلب من السعودية أن تقصفهم عام 2009 ففعلت. كدس المليارت التي تقدر بين 15 مليار، كحد أدنى و60 كحد أقصى، علما أن اليمن من أفقر 20 دولة في العالم.

السعودية قامت بترميمه وإعادة تأهليه بعد الانفجار الذي أصابه في يونيو 2011 وأعادوه بعد المعالجة إلى اليمن ليتابع دوره التخريبي هو وابنه أحمد وبعض من مجموعات قبلية. لكنه كان يعرف أنه غير مقبول، فمد جسورا مع أعداء الأمس الحوثيين. عقد معهم صفقة مشبوهة لإسقاط حكومة عبد ربه منصور هادي الشرعية، مستقويا بوحدات من الحرس الجمهورية المرتبطة بالولاء بابنه أحمد، بالإضافة إلى ميليشيات الحوثيين التي اكتسبت خبرة في ميادين القتال فبدأ الاثنان عملية قضم اليمن، ابتداء من صعدة وصولا إلى عدن وبطريقة عنجهية، بدون أن يعلموا أن الحاضنة الشعبية لمثل هذا الانقلاب غير متوفرة ولا نصيب لفرض سيطرة الشاويش على الشعب اليمني مرة أخرى.

السعودية التي لا تعمل عادة في الظل كونت تحالفا بين ليلة وضحاها، وأطلقت ما سمي بـ»عاصفة الحزم» وبدأت تسقط قذائفها على فقراء اليمن. فوقع الشعب اليمني بين نارين نار الحوثيين وحليفهم صالح، والقصف الجوي العشوائي لطائرات التحالف، الذي أصاب المستشفيات والمدارس والبنى التحتية وأدى إلى سقوط المزيد من الأبرياء.

وحسب تقديرات الأمم المتحدة فنحو 73 في المئة من الضحايا المدنيين سقطوا بسبب غارات دول التحالف. فعلى أي الجانبين يميل الشعب اليمني؟ أكثر من 21 مليون أصبحوا بحاجة إلى المساعدات الخارجية، وزاد عدد الضحــــــايا عن 6000 وانهار النظـــامان الصحي والتعليمي. وعندما يدخل الطرفان في جولة حوار ثالثة برعاية إسماعيل ولد الشــيخ أحمد ويتفقان على جدول أعمال ربما لن يبقى شيء من اليمن لينقذاه.

وفي النهاية وكي لا نزيد من مواجع المواطن العربي سأعفيه من الحديث عن ليبيا والسودان ومصر ولبنان. وقبل الانتهاء من هذه الملاحظات لا بد أن نذكر أن الأيام الأخيرة من عام 2015 غيبت قائدين عظيمين كل بطريقته، حسين آيت أحمد، ابن قبائل الأمازيغ الذي انتصر للوطن وأسس مع رفاقه جبهة التحرير الجزائرية لكنس الاحتلال الفرنسي من أرض البطولات بعد 132 عاما من الاستعمار.

والبطل الثاني سمير قنطار، الذي اعتبر الانتماء للثورة الفلسطينية أرفع من اي اعتبار طائفي أو ديني أو إقليمي. كلا الرجلين، يمثل بطريقة أو بأخرى، نقاء الانتماء للوطن بمفهومه الأوسع من هذه الحثالات التي قزمت مفهوم الأمة في الطائفة أو العائلة أو المذهب أو العرق أو الدين.

وكل عام وأمتنا العربية بخير

٭ محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز