خضع الأردن لمؤثرات الربيع العربي ونتائجه، كغيره من الدول العربية. حكومات عدة تعاقبت، آلاف التظاهرات التي خرقت كل السقوف، تغيُّرات في رأس الأجهزة الأمنية (الشرطة والدرك، والاستخبارات بدرجة أقل) وبرلمان تم حله.
قيادات جديدة تهدف إلى دولة مواطنة وتحمل همّ محاربة الفساد كما الجماهير، وأصوات برزت، ومجال عام أعيد الاعتبار إليه وشباب تقدم على الشيوخ، ورجال دولة سابقون استنهضوا همتهم ووجدوا إمكانية استعادة بعض المكاسب والغنائم بالتفافهم حول الشباب والأصوات المعارضة وقد حدث ذلك، وقيادات كانت في الشارع انتهت في أحضان الحكومة الحالية مستجلبة الغنيمة.
سورية أنهت الربيع الأردني، عظة الأردنيين كانت كبيرة. وتذرُّر حركة الإخوان المسلمين وفر للدولة الخلاص من أكبر طاقة جماهيرية في الحراك الذي بدأ مع انتفاضة المعلمين العام 2010 في شكل جدي، وهو حراك عرفت جماعة الإخوان الاستثمار فيه. رؤساء وزراء ذهبوا للمحاسبة في البرلمان، زوج أميرة هاشمية ما زال متهماً ويحاول حتى اليوم إثبات البراءة، وصدر عليه حكم قضائي بالغرامة بمئات الملايين، وكان الملك عبدالله الثاني واضحاً بأن يحاسب كل فاسد وقالها مرة: «ولو كان ابني».
التقارير من الأطراف كانت تصل إلى صانع القرار، كان الملك يطّلع على كل شيء ويشاهد التسجيلات، حُرِقت صوره وتحمّل ذلك، وعفا عن الذي قام بهذا العمل، وأدرك جيداً أن جماعة الإخوان تنوي جعل إحدى محافظات الجنوب درعاً أخرى، وهم صرّحوا بذلك، كما صدرت فتاوى من شيخ إخواني متشدد تبيح الدماء.
طالب الحراك بتعديل الدستور الأردني الصادر 1952 وحدث ذلك، طالبوا بمحكمة دستورية وأُنجزت، وكذلك هيئة مستقلة للانتخابات وهي موجودة اليوم وأُعيدت الأراضي التي سجلت باسم الملك أو استولى عليها متنفّذون، وكل ذلك تم وأعلنه الإعلام.
لكن ما حدث لم يكن سبب صمت الناس اليوم وعودتهم للبيوت ورضاهم بوطنهم في حاله الراهنة، لقد أدرك الأردنيون والدولة أن ثمة تغيرات عدة حدثت على المستوى التواصلي وعلى المستوى الاجتماعي والاقتصادي، إذ فاق الدّين العام اليوم مستواه المقبول وشكّل خرقاً للدستور، ونتج من المتغيّر الاقتصادي اليوم أمران هما نمو طبقة متوحشة من التجّار والمقاولين ومنهم نواب في مجلس الأمة يتولون العطاءات في الإنشاءات الحكومية، والنتيجة الثانية استشراء البطالة بسبب تخلُّف الهياكل الاقتصادية، والأهم هو متغيِّر التعليم الذي أفرز نتيجتين هما: الوعي، والقدرة على توظيف الوعي، وبالتالي إدراك قيمة الحرية كمدخل للتغيير.
في الأردن كانت القوى الشبابية المحسوبة على الإخوان قد نزعت احتجاجياً، كما في احداث 24 آذار (مارس) 2011 عند دوار الداخلية وساحة النخيل، إلى نسخ النموذج المصري بمصادرة المجال العام والاتجاه للصدام مع قوى الأمن والمطالبة بإخراج الأجهزة الأمنية من الجامعات، وفي ذلك تحقيق لتطور مهم في سيكولوجيا الجماهير وهو التعبير عن التغيير بالتوجُّه نحو تفكيك الدولة واستبدال خيار التغيير عبر صناديق الاقتراع بخيار التفكيك الكامل لبنية الجهاز الحكومي الرسمي، وهنا مكمن الخطورة.
وفي حين كان المطلوب إقناع الدولة بالإصلاح وتغيير سياساتها القائمة على الاحتواء الموقت لبعض القوى أو وهبها بعض الامتيازات أو دعمها لبعض الوجهاء في مقابل الولاء القائم على المكاسب، فإن الدولة ذهبت إلى الإمعان في تلك السياسة، مما أحدث ازمة تهميش وكان الناس يعاقبون الأصوات المطالبة بالتغيير لأنها احالتهم على واقع أسوأ مما كانوا عليه قبل الربيع العربي.
في الأردن بقي الإصلاح وئيد الخطى، وحتى اليوم هناك جدل على قانون الانتخاب الذي شهد الأردنيون خلال آخر خمس سنوات ثلاث نسخ منه، واليوم يجري الإعداد للرابعة. ومع ذلك إذا قيس نعت الإصلاح بالبطء مقابل خيار الانقسام والفوضى، يفضّل الخيار الأول في دولة محدودة الموارد، وما هو مطلوب منها عربياً ودولياً أكبر من جهدها وقدراتها.
انتهجت الحكومات الأردنية سياسات عدة في الربيع العربي، كانت الأدوات غالباً تقليدية في التعامل مع الحراك، لكن المهم أن الحكمة هي التي طغت لئلا ننزلق إلى الفوضى، وكان لدى الملك حسم واضح في هذا المجال بأن لا ينال الرصاص من أحد ولا يعاقب أحد على رأي عقاباً عسيراً، وقد حدثت حوادث طفيفة لكنها لم تتصاعد وتتدحرج بعكس ما كان يريد بعض الجهات.
كان هناك رأي واحد يقود البلد، هو رأي الملك والجهـــاز الأمني، الذي أدرك أن همــــة الحراك ستفتر، وأن المطلوب ليس ضحايا وعقاباً بالجملة لمن يطــــالـــب الناس بحسابهم لكونهم مشبوهين بالفساد، كـــان المهم إدراك العقل وليس القلوب الغاضبة أو الأصــوات المطالبة بإصلاح الأردن والتي تدعو لبقاء قـــادة الاستــــــبداد فــي الجوار، لكونهم زعماء مقاومة.
حمل الأردن مسؤولية إثبات أن المجاميع الاجتماعية لها موعد للحركة والهدوء وللجمهور سيكولوجيا خاصة، وتم الرهان جيداً على ذلك وعلى ذاكرة الجماهير القصيرة، واستمرت الحوافز والعطايا والهبات والتعيينات، وحين صار الأمر مكشوفاً لقوى الحراك بأنهم استُخدموا لمآرب اشخاص وليس لتحقيق مطالبهم العادلة، عادت الغالبية إلى أعمالها لكن الكثير مما طُلب لم يتحقق.
افشل قادة الحراك مطالب الناس وآمالهم، قال الشارع بحرب على الفساد وأيّد الملك ذلك، قال الشارع بالعدالة في التوظيف وأفشلت الحكومات ذلك ومعها النواب الذين ظهروا أضعف مما كان المجتمع يأمله من مجلسهم، لبس الناس ثوب الدولة للدفاع عن بقائها، وانتهى الفرز في الشارع بين مقولة النظام والدولة، وعرف الجميع أن التغيير لا يحدث في يوم وليلة.
استمر رفع الأسعار والتضخُّم والديون والبطالة، واليوم بعدما انهت الحكومة ممارستها لطقس الاسفنج، بات رحيلها منتظراً فالناس يرون رئيسها الذي اقسم أن لا احد يمكن أن يعيّن افراداً من ابناء مدينته السلط عندما كان وزيراً للتربية والتعليم أواسط التسعينات، فإنه ماضٍ في سياسته وفي نهج الجباية المالية وتضخيم الدين.
صحيح أن الأردنيين عادوا إلى بيوتهم ليس خوفاً، بقدر ما اكتشفوا خيانة قيادات الحراك، وانسداد الأفق السياسي الجماهيري، فلا احزاب ولا رموز سياسية من دون أهداف شخصية ومناطقية، لكن يقظتهم ما زالت حاضرة على رغم البيات الشتوي، خصوصاً مع تعاظم مخاطر اللجوء السوري اجتماعياً واقتصادياً، وعدم تشغيل الناس وتراجع التعليم وانتشار المخدرات ونمو الهويات الفرعية، هذا كله يجب على الدولة أن تنتبه إليه، مع ملاحظة متغير الوعي بين الناس الذي لن يكون متواضعاً في المستقبل وسيكون ممتلئاً بالغضب إذا لم يرَ الناس حلولاً جذرية لمشكلات عدم نمو الدخل وتفشي البطالة. * كاتب أردني |