التاريخ: كانون الأول ٢٩, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
الديبلوماسية العربية ومحاربة الإرهاب - مصطفى الفقي
تسيطر قضية «الإرهاب» ومخاطره واحتمالات مستقبله في المنطقة على أصحاب الرؤية وذوي الفكر حتى تصل إلى المواطن العادي في أي شارع عربي أو إسلامي وهو يتساءل عن النتائج المحتملة لما نمر به حالياً من أحداث وما نواجهه من تحديات. إذ تشير التوقعات كافة إلى تزايد شراسة تنظيم «داعش» ومحاولته فتح جبهات جديدة عوضاً عن تلك التي يخسرها فهو تنظيم «سرطاني» تبدو بداياته مشبوهة وتتداخل فيها عوامل التخطيط الاستراتيجي الغربي مع التمويل الإقليمي إلى جانب التسهيلات التركية حيث كان الهدف في البداية هو إسقاط نظام الأسد، ولكن لا يخفى علينا أن إطلاق المارد من القمقم أمر سهل ولكن أن نصرفه في ما بعد أمر يبدو في غاية الصعوبة، فاستدعاء الشيطان ممكن ولكن استبعاده يحتاج إلى وقت طويل وجهد كبير وتضحيات جسام. وأنا هنا أدعو الديبلوماسية العربية والإسلامية إلى ضرورة مراجعة الموقف برمته للوصول إلى تصور شامل يحدد استراتيجية المواجهة ويوزع التكاليف والتضحيات على الأطراف المختلفة في المنطقة. فإذا كنا قد بدأنا منذ شهور عدة بالحديث عن «القوة العربية المشتركة» ثم انتقلنا حالياً إلى ما يمكن تسميته بـ»القوة الإسلامية المشتركة» فإن الأمر في مجمله قد لا يختلف كثيراً خصوصاً أن الإرهاب يتغطى باسم الإسلام ويرفع شعاراته ويفرض علينا نوعاً من التحدي غير المسبوق في تاريخ المنطقة. ولعلي هنا استكشف عدداً من الحقائق المرتبطة بهذا الموضوع الخطير:

أولاً: إن الإرهاب داء العصر والمرض اللعين الذي يسعى لالتهام الحضارات والعبث بالتراث وتقويض الدول ولذلك فإن مواجهته هي مسؤولية إنسانية جماعية تشترك فيها كل الحضارات والثقافات والديانات من دون تفرقة أو استثناء، فالمخاطر واحدة ومستقبل البشرية مرتبط بتجاوز مواجهة عالمية محتملة نتيجة ما يلوح لنا في الأفق من احتمالات خطيرة ومواجهات صعبة يبدو أن التحضير لها قد بدأ منذ سنوات في عدد من العواصم الغربية ولكن تقع المسؤولية الأساسية على العالمين العربي والإسلامي لأنهما المتهمان ظلماً حيث تلقي عليهم القوى المعادية تبعة كل ما يحدث في تعميم ظالم ومن دون تمييز مطلوب، ولقد بُذِلَت جهود متوالية في هذا الشأن ودفع العرب والمسلمون الفاتورة دائماً، ولكن الرواية لم تتم فصولاً ولا تزال المخاطر تحيط بنا من كل اتجاه.

ثانياً: إن ما يجري هو حملة إرهابية كبرى ذات أبعاد خبيثة تستهدف الإسلام ديناً والمسلمين أمة وشعوباً لذلك يتعين علينا الأخذ بزمام المبادرة والتوجه بشكل عقلاني نحو آفاق غير تقليدية لمواجهة مشكلات وأزمات هي بطبيعتها غير تقليدية أيضاً، إذ أننا نواجه عدواً خفياً لا نحاوره ولا نتواصل معه ولكننا نشعر فقط بمخططاته ونعاني من جرائمه ونبدو أمام العالم وكأننا مجرمون بينما نحن الضحايا الذين يدفعون الثمن ويحملون وزر كل الآثام التي ترتكبها جماعة «داعش» وأخواتها. إننا نواجه ظرفاً تاريخياً يعيد إلى الأذهان مآسي العصور الوسطى حيث تختلط الأوراق ولا تبدو الأمور واضحة أمامنا ولا أمام غيرنا ولكن يصب الحصاد الإيجابي لهذه الأوضاع المتردية في خانة أعداء العرب وخصومهم إقليمياً ودولياً. ونحن نعلم ما هي الدول الرابحة من تناثر الأشلاء وتدفق الدماء وشيوع الفوضى في منطقة الشرق الأوسط. وبالتأكيد فإن الخاسر الحقيقي هم العرب الذين تجري على أرضهم المعارك الدامية والجرائم غير المسبوقة على الساحتين العربية والإسلامية.

ثالثاً: تحتاج الاستراتيجية العربية والإسلامية إلى مستويين، أولهما يكون بالسعي إلى ما يجب بينما يكون المستوى الثاني بالامتناع عما لا يجب، أي أن هناك مسارين أولهما إيجابي والثاني سلبي، أما المسار الإيجابي فهو ضرورة إعادة النظر في النظام التعليمي العربي ومراجعة المؤسسات الثقافية ذات الطابع الديني أو المدني من أجل تنقية المجتمع العربي من شوائب استقرت فيه ورسخت في وجدانه عبر السنين. كما يتعين علينا تصحيح مسار المؤسسات الدينية حتى تكون مؤسسات تمضي على الطريق الصحيح وتعبر عن الدين الحنيف من دون مواربة أو عبث أو تلاعب، فالله الذي خلق الجميع وهو الذي أرسل النبيين والرسل وجعلنا جميعاً متساوين في لحظة الميلاد، كذلك فإن اختفاء القهر السياسي ومواجهة الضغط الاقتصادي برفع مستوى معيشة الطبقات الأكثر عدداً والأشد فقراً، هو أمر أساس في هذا السياق. إذ أن الفقر والجهل يقفان بشدة وراء الإرهاب وممارساته. ويكفي أن نتأمل المنضمين إلى صفوف «داعش» لنكتشف أن معظمهم قادمون من طبقات مطحونة وأنهم يمثلون مجموعات من المأزومين الشباب والفتيات من مختلف الأقطار والمجتمعات.

رابعاً: إن النقد الذاتي والاعتراف بالأخطاء هما مقدمة لتصحيح الأوضاع وعلاج الخلل في المعادلات الإنسانية القائمة، فالسؤال المطروح يدور حول سلامة القرارات العربية تجاه معالجة الأزمة السورية منذ بدايتها، وهل كان التصعيد العربي – دولاً وجامعة – ملائماً للتطورات في وقتها؟ وهل أدى ذلك التصعيد إلى صناعة «داعش» تلقائياً بمعرفة باقي الأطراف الدولية والإقليمية؟ خصوصاً أننا ندرك من البداية أن الحروب الأهلية الناجمة عن غزو أجنبي تؤدي بالضرورة إلى صناعة الإرهاب. إذ أن تنظيم «القاعدة» ولد من رحم الحرب الأفغانية ضد الاتحاد السوفياتي منذ عقود عدة وما زلنا نواجه مخاطر ذلك التنظيم حتى اليوم، كذلك ولد تنظيم «داعش» من رحم الثورة السورية إلى جانب مؤثرات تطور الوضع في العراق وتسريح جيش صدام حسين بعد الغزو الأميركي عام 2003، أي أن التاريخ أعطانا درساً مؤداه أن التنظيمات المسلحة حين تفرغ من مهامها الأصلية فإنها تتحول تلقائياً إلى قوة إرهابية تتصرف كما لو أن مهمتها مستمرة وأن رسالتها دائمة من دون تفكير في العوامل الأخرى على الساحة. خامساً: إن التواصل بين الإسلام وأتباعه من جهة والغرب المسيحي على الضفة الأخرى من المتوسط والمحيط من أجل مواجهة شاملة ضد التطرف هو أمر ضروري خصوصاً أن الموقف الأميركي من «داعش» تحوطه ملابسات مختلفة من حيث النشأة والتطور والوضع الاجتماعي. إنهم يطالبون حالياً بالسيطرة على مساحات واسعة من سورية والعراق بل وليبيا أيضاً! إننا أمام تركيبة معقدة في المنطقة تحتاج إلى سنوات لفك ألغازها وفتح قنوات قومية للخروج منها.

سادساً: إن الارتباطات المتعددة في الديبلوماسية العربية تجعلها قادرة على الاشتباك مع القوى الدولية والإقليمية فهناك دول علاقتها بواشنطن أقوى من موسكو والعكس صحيح بالنسبة إلى دول أخرى، كما أن لإيران مفاتيح تختلف عن تلك التي تصلح لتركيا، بل إن العلاقات مع إسرائيل ذاتها تختلف من دولة عربية إلى دولة أخرى. إننا نريد استخدام الميزة النسبية لكل دولة عربية وتوظيف اتصالاتها بالدول الأخرى، فالسعودية مثلاً محل تقدير في الغرب وقد تكون مصر محل تقدير في أفريقيا وآسيا وبعض الدول الأوروبية، كما أن دولة مثل عُمان تتمتع بصلات طيبة مع إيران، وقطر لها صلات طيبة مع الولايات المتحدة وبعض القوى الإقليمية الأخرى. بينما السودان يمضي إيجابياً تجاه إثيوبيا نظراً للعلاقات الطيبة حالياً بين الخرطوم وأديس أبابا، ودول الشمال الأفريقي - المغرب والجزائر وتونس - هي امتداد ثقافي للجنوب الأوروبي. إنني باختصار أطالب بحملة دولية يجري فيها توظيف كل الإمكانات العربية لتحقيق الأهداف العليا للعرب والمسلمين في هذه الظروف المعقدة والتي تتداخل فيها التحالفات وتتعدد الانتماءات ويطل الإرهاب بوجهه الكئيب على دول المنطقة على نحو غير مسبوق.

سابعاً: إن الديبلوماسية العربية بأجهزتها المختلفة قادرة على اقتحام المنظمات الدولية وشرح وجهة النظر العربية وتوضيح المفاهيم الإسلامية والتصدي للموجات الإرهابية من خلال شبكة الاتصالات التي تربط العواصم العربية بدول العالم. وليس ذلك أمراً جديداً أو بعيداً لأننا نعلم أن العرب والمسلمين قد تعرضوا من قبل لموجات متتالية من الضغوط السياسية والممارسات الإرهابية واستطاعوا دائماً أن يكونوا قادرين على حماية حقوقهم وصيانة مصالحهم حتى أن القضية الفلسطينية لم تمت ولم تتراجع على امتداد سبعة عقود أو ما يزيد، فالعمل العربي المشترك هو الرهان الدائم للوصول إلى الأهداف العليا للعالمين العربي والإسلامي.

إن من يتأمل المشهد الراهن في منطقة الشرق الأوسط لا بد أن يشعر بالخطر الداهم على العروبة والإسلام وأن يفكر بأسلوب عصري في إمكانية الهروب من هذا المأزق على أسس من التواصل الإنساني والقبول بروح العصر وتداعياته والملابسات المحيطة به. إن الديبلوماسية العربية قادرة دائماً على بناء الجسور وفتح الآفاق مهما كانت العقبات والتحديات لأنها إرادة الحياة لشعوب قررت أن تبقى، وأمة صممت على أن تعيش، ودول لن تسقط أبداً!
 
 
* كاتب مصري