التاريخ: كانون الأول ٢٢, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
الحاجة إلى استعادة خيار الدولة الديموقراطية الواحدة - ماجد كيالي
يحتاج الفلسطينيون اليوم، وأكثر من أية فترة مضت، الى استعادة خيار الدولة الواحدة الديموقراطية، الذي يتضمّن تقويض الصهيونية الاستعمارية والعنصرية والدينية، وإيجاد حل للمسألتين الفلسطينية والإسرائيلية، على قاعدتي الحقيقة والعدالة، ولو النسبيتين.

بيد أن الطبقة السياسية السائدة، في المنظمة والسلطة والفصائل، مازالت تحاجج برفض هذا الخيار باعتبارها خيار الدولة المستقلة في الضفة والقطاع هو الأكثر واقعية، والأسهل والأقرب منالاً، والذي يتماشى مع القرارات والإرادات الدولية.

بديهي ان هذا الكلام صحيح لكن من الناحية النظرية فقط، إذ إنه لم يثبت البتّة من الناحية العملية، لأسباب عدة، أهمها: أولاً، أننا حقاً إزاء دولة واحدة، من الناحية الواقعية، لكن مشكلتنا أن هذه الدولة استعمارية وعنصرية، وهي تشتغل وفق أنظمة قانونية عدة، فثمة قانون للإسرائيليين في إسرائيل، وقانون للمستوطنين في الضفة والقدس، وقانون للفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967. كما تكمن مشكلتنا في اننا لا نريد ان نرى هذا الواقع، مع تمثلاته العملية في الحياة اليومية، في كل ما يخص قضايا السياسة والأمن والاقتصاد والعملة والتجارة والبنى التحتية والمعاملات الإدارية. وعلى ضوء ذلك، فإن خيار الدولة المستقلة، اي خيار الانفصال عن إسرائيل، يغدو هو الخيار الأصعب والاكثر تعقيداً من خيار الدولة الواحدة، وليس العكس، وهذا بالنسبة الى الفلسطينيين والإسرائيليين، حيث لا أكثر واقعية من الواقع ذاته، أي الواقع الذي نحن فيه. أما ثاني الأسباب، فيتمثل في أن هذه المحاججة تتناسى أن الفلسطينيين ومنذ اربعة، من بين خمسة عقود هي عمر حركتهم الوطنية، يطرحون هدف الدولة المستقلة من دون ان يتحقق منه شيء، وحتى أن كل تنازلاتهم، المتضمنة في اتفاق اوسلو عام 1993، لم تمكنهم من استدراج اسرائيل إلى هذا الحل، بحيث بقي الكيان الفلسطيني في الضفة بمثابة سلطة حكم ذاتي للسكان وليس الارض، ولا لأي من المجالات السلطوية: السياسية والأمنية والاقتصادية. والسؤال كم اربعة عقود اخرى ينبغي ان نحتاج حتى ندرك عقم هذا الخيار او لا واقعيته في الظروف والمعطيات السائدة؟ ثالثاً، اما بالنسبة الى المجتمع الدولي فمن الواضح أنه لا يفعل شيئاً، حتى بعد الاعتراف بمكانة فلسطين كدولة عضو (مراقب) في الامم المتحدة، لسبب بسيط وهو ان الولايات المتحدة ما زالت تقف وراء التعنت الإسرائيلي، وأن العالم كله لا يستطيع شيئاً على هذا الصعيد طالما ان إسرائيل لم تغير موقفها.

على أية حال فإن استعادة خيار الدولة الواحدة، الذي كانت الحركة الوطنية الفلسطينية طرحته، او ابتدعته، في بداياتها (في أواخر الستينات)، والذي يضمن حل مجمل مظاهر القضية الفلسطينية، وتحرير اليهود من الصهيونية، لا ينبع من أفول حل الدولتين، أو ربما استحالته فقط، بسبب الرفض الإسرائيلي، وبحكم تغلغل الاستيطان في الضفة والقدس، وبواقع التبعية الذي يربط كل شيء في الأراضي المحتلة بإسرائيل، وإنما، أيضاً، من حاجة الفلسطينيين إلى مشروع وطني يعزّز وحدتهم كشعب، ويعيد الاعتبار لقضيتهم كقضية تحرر من استعمار استيطاني، من نوع خاص، يتأسس على ازاحة أهل الأرض الأصليين، من الزمان والمكان.

فوق كل ما تقدم فإن ما يفترض إدراكه هنا أن حل الدولة المستقلة، في الضفة والقطاع، في المعطيات الحالية، يفتح على معضلتين اساسيتين: الأولى، تقويض مفهوم الشعب الفلسطيني، أو تغييبه، بحيث يغدو الفلسطينييون على شكل وحدات اجتماعية مختلفة، لا صلة بينها، حتى في الداخل، حيث سنجد أنفسنا ازاء فلسطينيي 1948، وفلسطينيي الضفة، وفلسطينيي القدس الذين قد يأخذون وضعاً خاصاً، مع عدم الجزم بمعرفة ما الذي سيحصل في شأن غزة، هذا من دون ان نتحدث عن فلسطينيي الأردن (كمواطنين)، وفلسطيني لبنان وسورية وبقية دول اللجوء والشتات. اما الثانية، فتتمثل بإزاحة السردية الوطنية، المتأسسة على النكبة، وتعريف الصهيونية كحركة استعمارية واستيطانية، وتالياً، ازاحة قضية اللاجئين، ما يفضي الى التخلي عن حقوقهم، لا سيما ان خيار الدولة المستقلة، وفقاً لاتفاق اوسلو، لم يعد يتضمن حق العودة وتقرير المصير على النحو الذي تمثل في «البرنامج المرحلي» الذي أقر في المجلس الوطني الفلسطيني (1974). ولنا أن نتأمل بعد هذين الثمن الباهظ الذي سيدفعه الفلسطينيون مقابل كيان محدود، لا يحقق قيام دولة مستقلة لهم، بكل معنى الكلمة، حتى في أحسن الأحوال. أي ان الأمر لن يقتصر على التنازل عن فكرة ارض فلسطين الواحدة، أو حتى تنازل عن اراض في الضفة، وإنما التنازل، أيضاً، عن وحدة الشعب، كما عن حقوق، وعن الرواية التاريخية، وعن عنصري الحقيقة والعدالة اللازمين لأية تسوية ولو نسبية.

هكذا، فإن حل الدولة في الضفة والقطاع ليس حلاً واقعياً، كما بيّنت التجربة، طالما انه ينبثق من عملية تفاوضية، ومن دون ارتباط بتغيرات موازين القوى، او بالمعطيات العربية والدولية، وحتى من دون تغيرات في رؤية اسرائيل لذاتها. هذا يعيدنا الى تجديد المطالبة بنبذ اوهام الدولة المستقلة، التي يعزز منها نشوء كيان فلسطيني، مع علم ونشيد ورئيس ووزارة وسفارات، إذ إن الفلسطينيين يعيشون اليوم، وبغض النظر عن طبقتهم السياسية، في إطار واقع من دولة واحدة، بأظمة قانونية عدة، تحت الهيمنة الإسرائيلية الاستعمارية والعنصرية.

بيد أننا في إطار الرد على محاججة أصحاب خيار الدولة المستقلة، في رفضهم خيار الدولة الواحدة، نؤكد أن هذا الخيار لا يطرح في مواجهة خيار الدولة المستقلة، لأن إسرائيل هي التي تقرر بهذا الخصوص، وليس تبنّي الفلسطينيين هذا الخيار او ذاك، بمعنى ان هؤلاء لا يملكون، أصلاً، خيار المفاضلة بين الخيارات، لأنها تفرض عليهم بحكم الأمر الواقع وموازين القوى والظروف المحيطة. هذا أولاً. ثانياً، أن خيار الدولة الواحدة ليس للتفاوض، وإنما هو خيار نضالي، طويل الأمد، مع انه قد يحتاج في فترة ما لأطر تفاوضية. ثالثاً، ان هذا الخيار يفترض أشكالاً نضالية شعبية، ربما هي اقل كلفة للفلسطينيين، لكنها قد تتيح لهم تقوية مجتمعهم، وتعزيز كياناتهم السياسية، بدل الاستنزاف الذي يتعرضون له منذ نصف قرن في الداخل والخارج. رابعاً، إن خيار الدولة الواحدة هو الذي يمكن أن ينقل الصراع الى داخل المجتمع الإسرائيلي، ويكسر تمحور الهوية الإسرائيلية من حول التهديد الوجودي، الذي استثمرت فيه الحركة الصهيونية وإسرائيل طوال العقود الماضية، من دون ان يكون ثمة تهديد وجودي من الناحية الفعلية. خامساً، هذا ينتج، أيضاً، عن التحول من حيّز الصراع على الأرض إلى الصراع على الحقوق، إذ ان ذلك سيخلق ممهدات لمشتركات نضالية بين مجتمع المستعمِر ومجتمع المستعمَر، على نحو ما جرى في تجربة الكفاح ضد نظام الأبارثايد (السابق) في جنوب افريقيا. ففي هذه الحال فإن هذه النقلة ستحرر الإسرائيليين من مزاعم «التهديد الوجودي»، وتالياً التحرر من اسار الفكرة الصهيونية، كما ان هذه النقلة ستمكن الفلسطينيين من تعزيز وحدتهم كشعب، والتحول من الكفاح من اجل جزء من الأرض وجزء من الحقوق الى الكفاح في اجل كل الأرض وكل الحقوق.

الفكرة ان الحديث هنا يدور عن الانتقال من الدولة الواحدة، الاستعمارية العنصرية (بنظم قانونية عدة)، حيث ثمة هيمنة من شعب على شعب آخر، كما تتجسد الآن، إلى الدولة الواحدة الديموقراطية، اي دولة المواطنين الأحرار والمتساوين. ومعلوم أن حلاً كهذا ليس قابلاً للتطبيق في المدى المنظور، او دفعة واحدة، وأنه سيحتاج إلى تدرجات، وإلى تفاعلات إسرائيلية مناسبة، وإلى نوع متميز ومضن وطويل من النضال الفلسطيني، كما يحتاج إلى إطارات دولية وعربية ملائمة، ولكنه اكثر خيار يتناسب مع القيم العالمية، المتعلقة بالحرية والعدالة والمساواة والديموقراطية.

على ذلك ثمة مشروعية لاستعادة خطاب الدولة الواحدة طالما ان المسألة بالنسبة الى الفلسطينيين تتعلق بالخطابات، اكثر من موازين القوى، لأن هذه النقلة تمكنهم من تعريف انفسهم وبناء مفاهيمهم وأدواتهم الصراعية، ومن ضمنها تعريف العالم بقضيتهم، وجلب التعاطف مع حقوقهم، والاشتغال على التناقضات الإسرائيلية، وتوسيع المشتركات مع مجتمع الإسرائيليين، ضد اسرائيل الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية والدينية، من اجل دولة واحدة ديموقراطية يتساوى فيها جميع المواطنين.

ما ينبغي ان تدركه الطبقة السياسية الفلسطينية السائدة أنه لا يوجد واقعية اكثر من الوقع ذاته، وأن الفلسطينيين في الأراضي المحتلة يعيشون في إطار دولة واحدة لكن استعمارية وعنصرية، ويبقى ايجاد الرؤى والبنى والأشكال التي يمكن ان تساهم في تغيير هذا الواقع.
 
 
* كاتب فلسطيني