التاريخ: كانون الأول ٢٢, ٢٠١٥
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
موسكو وواشنطن في سوريا: كل يتحيّن خسارة الآخر - جوزف باحوط
شهدت الأشهر الستة الأخيرة تغييرات سريعة وعنيفة وفجائية على الساحة السورية، بالنسبة إلى الجنود والديبلوماسيين والسياسيين على السواء. وفي حين أن التدخّل الروسي الذي بدأ في 30 أيلول الماضي قد يُغيِّر مسار النزاع، ربما لن يؤدّي سوى إلى الموت البطيء والمؤلم لسوريا.

بيد أن تدخّل بوتين غيّر ديناميات القوة ووقائع المعارك في المحنة السورية التي تتوالى فصولاً. وعند محاولة استشراف الاتجاهات المحتملة التي قد تسلكها الأزمة السورية في أعقاب التدخل الروسي، يجب أن يؤخَذ في الاعتبار الوضع على الأرض، والسياقان الإقليمي والدولي، والرابط بين هذين المستويين.

أسباب التدخل الروسي
بدأ التدخل الروسي في أواخر أيلول الماضي في وقتٍ كان نظام الرئيس السوري بشار الأسد قد بدأ يخسر أراضي على جبهات عدّة. كانت معالم النزاع قد أصبحت واضحة آنذاك.

سوريا هي الآن بلد مفكّك ينقسم إلى أربع مناطق مختلفة على أقل تقدير. لا يزال نظام الأسد يسيطر على ما يُسمّى في معظم الأحيان "سوريا المفيدة"، تحديداً الجزء الغربي من البلاد، من دمشق إلى الساحل. وفي الشمال والشمال الشرقي، أنشئ جيبان أو ثلاثة جيوب حيث يتمتع الأكراد بشبه استقلال ذاتي، تحت اسم روج آفا أو غرب كردستان. لا تزال الجبهة الجنوبية على طول الحدود الأردنية والإسرائيلية تحت السيطرة المحكمة لعدد من العشائر السنّية، وفصائل معتدلة من "الجيش السوري الحر"، ووحدات درزية للدفاع عن النفس مدعومة من الحكومة. أخيراً، تُرِكت المنطقة الوسطى في سوريا ساحةً للاقتتال بين التنظيم المسمّى "الدولة الإسلامية" وعدد من مجموعات الثوّار المعادية - منها "جبهة النصرة" و"أحرار الشام" وسواهما.

عند بدء التدخل الروسي، كانت الحكومة المركزية قد خسرت تماماً السيطرة على حدودها، باستثناء الحدود السورية-اللبنانية. لقد اختفت الحدود مع العراق، والحدود مع إسرائيل والأردن هي في أيدي ثوّار "الجبهة الجنوبية للجيش السوري الحر"، أما الحدود التركية فتخضع في أجزاء منها لسيطرة المقاتلين الأكراد، وفي الأجزاء الأخرى لسيطرة "الدولة الإسلامية".

كانت المناطق الخاضعة لسيطرة النظام تتقلّص بسرعة بسبب الهزائم المتلاحقة على امتداد أشهر في ساحات المعارك، والتأكّل المستمر للجيش السوري من جملة أسباب أخرى. بحلول صيف 2015، أقرّ الأسد نفسه بأن الجيش السوري بات يدافع فقط عما هو حيوي ويمكن الدفاع عنه، بسبب نقص الموارد ولأنه يجب اتخاذ خيارات صعبة.

التهديدات والفرص
في حين أن قرار بوتين التدخل في سوريا بدا فجائياً، كان الهدف منه منع الأفرقاء الآخرين من التقدّم وكسب النفوذ عبر استغلال بعض الفرص. ربما رأى بوتين في الأطماع المتنامية للأصدقاء والأعداء على السواء، تهديداً لنفوذه في سوريا. بعد توقيع الاتفاق النووي الإيراني، بات واضحاً بصورة متزايدة أن طهران تعزّز مكانتها كلاعبة مشروعة بهدف أن تبدو في موقع وسيطة النفوذ في سوريا، وبدا أكثر فأكثر أن الولايات المتحدة موافقة على ذلك. وكذلك أبدت تركيا رغبة قوية في اقتطاع منطقة آمنة في الشمال والشمال الغربي لسوريا، وقد عمدت إلى زيادة طلعاتها الجوية وغاراتها، وبدأت التحضير لعملية برية محدودة.

في غضون ذلك، انشغلت قوى إقليمية أخرى بمسائل وملفات خارج سوريا. ربما رأى بوتين في ذلك فرصةً له كي يتحرّك. فالسعودية ودول الخليج التي شكّلت في السابق عائقاً أمام الأطماع الروسية في سوريا، تورّطت في المستنقع اليمني. وفي واشنطن، كانت إدارة أوباما تستعد لتمضية عامها الأخير في الحكم في استيعاب الاتفاق مع إيران وتطبيقه، ولم ترغب في تهديد مكانتها من خلال القيام بأي خطوات تنطوي على مجازفة في سوريا. كان هناك فراغ وقد قرّر بوتين ملأه.

الأهداف الروسية في سوريا
أبعد من هذه الاعتبارات، من السابق لأوانه الافتراض أن هناك مخططاً كبيراً خلف التدخل الروسي في سوريا. من الواقعي أكثر أن نتصوّر ما خطط له بوتين بأنه سلسلة من المناورات التدريجية في مراحل اللعبة النهائية، تعاقبٌ من خطط الطوارئ، وشلال من خطوط الدفاع، على طريقة الدمى الروسية، والتي يمكن تكييفها والتحكّم بها مع تطور الأحداث على الأرض وفي ساحة المعركة الديبلوماسية.

الهدف الأول والأعلى قيمة بالنسبة إلى روسيا هو ترميم الدولة السورية المركزية، إلى أقصى حد ممكن، لتعود كما كانت قبل عام 2011.

إذا تبيّن أن تحقيق هذا الهدف مستحيل أو مكلف جداً، الخيار الثاني هو الاكتفاء بالسيطرة على المناطق التي يمكن الدفاع عنها في سوريا المفيدة بعد ضمان سلامة الكانتون العلوي. ربما كانت هذه الفكرة واردة، إذ إن غالبية الهجمات الجوية الروسية تتركّز في محيط هذه المنطقة. ومن ثم، بإمكان بوتين أن يجمّد النزاع ويخوض حرب استنزاف طويلة، كما فعل في أوكرانيا والقرم. من شأن المناطق الأخرى في سوريا أن تتفكّك وتغرق في الفوضى. ويُترَك للغرب ودول الخليج التعاطي مع مسألة الصحراء في وسط سوريا، والتي تتنازع عليها مجموعات ثورية عدّة وتنظيم "الدولة الإسلامية. تتوقّع روسيا أن يصاب خصومها بالإنهاك في نهاية المطاف، ويأتوا إلى بوتين متوسّلين إليه التوصل إلى حل - الحل الذي لطالما خطّط له بوتين.

يتمثّل سيناريو الطوارئ الأخير في السعي إلى جعل الخيار الثاني شبه دائم. يمكن ترسيخ سوريا المفيدة بحيث تتحوّل جيباً تتدفّق إليه الأقليات تدريجاً، سعياً للحصول على الحماية أو الملاذ من حالة الفوضى في باقي البلاد. ويتحوّل هذا الواقع نقطة الانطلاق للتوصل إلى حل طويل الأمد عن طريق التفاوض بما يؤدّي إلى تثبيت تقسيم سوريا، ويمنح موسكو نفوذاً على دويلة في الساحل حيث تقع قواعدها العسكرية.

ردود الفعل الأميركية وعملية فيينا
في حسابات واشنطن، يبدو أن هناك أملاً بأن تغرق موسكو في نهاية المطاف في المستنقع السوري، فتتورّط في كمٍّ هائل من المشكلات يوازي حجماً تلك التي تحاول إيجاد حلول لها، وينتهي بها الأمر في خوض مواجهة مع إيران حول تملُّك ما تبقّى من نظام الأسد. في هذا السيناريو، بوتين هو من سيتحوّل نحو الدول الغربية والعربية متوسّلاً التوصل إلى حل مقبول. لقد لمّح الرئيس الأميركي باراك أوباما علناً إلى هذا الأمر في مناسبات عدة، مشيراً في الأيام التي أعقبت الاجتياح الروسي، إلى أنه يجب اعتباره إجراء يائساً لدعم الأسد، وإلى أن روسيا وإيران "ستتورّطان في مستنقع". بالطبع، كان هذا الخطاب أسلوباً مناسباً أيضاً ليتجنّب أوباما الانتقادات بأنه فشل في الرد على التحدي الروسي.

في الوقت نفسه، وجّه البيت الأبيض إشارات بأن الحملة الروسية قد تؤدّي في نهاية المطاف إلى منح اندفاعة قوية للأسد والقضاء على الجهود الديبلوماسية التي تُبذَل منذ عملية جنيف 2 من أجل السلام التي انطلقت عام 2014. وكذلك شجّعت الولايات المتحدة سراً - لا بل ساعدت ربما - على التصعيد من جانب تركيا ودول الخليج لا سيما السعودية، وذلك من خلال تسليم صواريخ "بي جي إم-71 تاو" المضادّة للدروع إلى الثوار بوتيرة أعلى وحجم أكبر من السابق. وقد استُخدِمت هذه الصواريخ لكبح أي تقدّم فعلي من جانب نظام الأسد في مواجهة الثوّار، حتى مع حصول النظام على الدعم الجوي الكثيف من روسيا.

يبدو أن التفسير المنطقي هو أن واشنطن تريد تجنّب المواجهة فيما تُبقي خياراتها مفتوحة في الوقت نفسه. في هذا الإطار، يبدو أن أولوية أوباما في عامه الأخير في الحكم تتمثّل في ترسيخ مكاسب الاتفاق مع إيران، وإدارة النزاع السوري بأدنى حد من الكلفة، وتمريره إلى الإدارة العتيدة. إنه السبيل الأفضل لفهم الصيغة الديبلوماسية الجديدة التي وُضِعت في فيينا. لقد انضمت إيران أيضاً إلى طاولة المفاوضات، لكن وزير الخارجية الأميركي جون كيري يستمر في ترداد المقولة الغربية نفسها بأنه على الأسد الرحيل - فيما يُبقي على الالتباس حول توقيت هذا الرحيل.

لقد بدأت الرقصة الديبلوماسية حول الجيفة السورية تشبه، في بعض النواحي، الرقصة حول المسألة الفلسطينية حيث يكثر الكلام عن حتمية حل الدولتين، على الرغم من أن الواقع الميداني يبتعد أكثر فأكثر، وبصورة مطّردة، عن الهدف المعلَن.

لعبة انتظار مدمّرة
ليس الوقت لمصلحة سوريا. ففي غياب حل جدّي وجذري للأزمة، أبعد من محاولة احتواء تنظيم "الدولة الإسلامية"، ستواجه البلاد مزيداً من الانهيار. في المناطق التي ستبقى خارج سيطرة النظام السوري والحماية الروسية، ستستمر القوى المتنافسة في الاقتتال للسيطرة على الأراضي والناس والاقتصاد. وسوف ينمو تنظيم "الدولة الإسلامية" في تلك المناطق. وسوف تستمر سوريا في التسبّب بمشكلات للمنطقة بأسرها.

لعل توقّعات كل واحد من الأفرقاء بأن خصومه سيغرقون في نهاية المطاف في المستنقع السوري، سليمة في لعبة النفوذ الكبرى. لكن هذا يعني الموت البطيء لسوريا، مع ما يترتّب عنه من تداعيات كارثية على المنطقة في شكل عام.

باحث في مركز كارنيغي (واشنطن)
(اقتضى ضيق المساحة حذف بعض المقاطع)

ترجمة نسرين ناضر