يزداد بريق الفرضية القائلة إن محاربة الإرهاب عسكرياً وأمنياً تكتسب أولوية مطلقة كلما توسع نطاق الخطر الذي يمثله تنظيم «داعش». ويظهر ذلك بوضوح منذ هجمات باريس الإرهابية في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. فقد تصاعدت الحرب المفتوحة على الإرهاب، أو بذريعته، وطغى المنهج الأمني على ما عداه، وأصبح التغير في مواقف بعض الدول الغربية باتجاه قبول وجود بشار الأسد، خلال مرحلة انتقالية غير محددة بدقة، أكثر وضوحاً.
لذلك صارت مناقشة هذه الفرضية بأكبر قدر من الموضوعية والواقعية ضرورة اليوم أكثر من أي وقت مضى، بعد أن ازداد بريقها. وإذا صح أنه ليس كل ما يلمع ذهباً، فليس حقيقياً بالتالي كل ما يزداد بريقه في لحظة معينة، بخاصة حين يحصل ذلك تحت وطأة الخوف من خطر أو تهديد ما.
والحال أن مناقشة فرضية أولوية محاربة الإرهاب على كل ما عداها، بما في ذلك العوامل الأساسية المسببة لهذا الإرهاب، تتطلب إزالة الالتباس الذي يحصل عادة عند الفصل بين عناصر لا يمكن إلا أن تكون مرتبطة لأنها تُشكّل معادلة واحدة لا تتجزأ. فالاستبداد يُعد في أعلى مراحله نوعاً من الإرهاب يُعرف في القانون الدولي بإرهاب الدولة. لكن هذا النوع من الإرهاب مسكوت عنه الآن على رغم أنه من أهم أسباب الإرهاب «الأسود» الذي يتصدر جدول الأعمال العالمي.
ويكمن الخلل الأساسي، هنا، في أن محاربة الإرهاب ومقاومة الاستبداد ليستا عمليتين منفصلتين يمكن التعاطي معهما على التوالي. وما الزعم بضرورة مواجهة الإرهاب أولاً إلا التفاف على خبرات متراكمة تفيد بأن بيئة الاستبداد تنتج أعداداً من الإرهابيين أكثر ممن يمكن قتلهم أو اعتقالهم في أي حرب.
فقد كان الاستبداد بكل تداعياته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وليس السياسية فقط، من أهم عوامل ظهور «الإرهاب الأسود» الذي يجد في تفسيرات دينية متطرفة غطاءً «فكرياً» منذ إرهاصاته الأولى في الستينات. فالعلاقة بين الإرهاب والاستبداد، إذاً، قديمة وسابقة على ظاهرة «داعش» بكثير.
وتفيد دراسة أصول هذا الإرهاب بأن ظروفاً موضوعية دفعت مجموعات من الشباب إلى البحث عن عقيدة حافزة على التمرد ضد أنظمة حكم مستبدة، بعد أن انطفأ وهج «العقائد» اليسارية الماركسية، ووجدوا ضالتهم في مقولات فقهية إسلامية متطرفة. فقد خرج هذا الإرهاب من ظلمات سجون حكومات أمعنت في الاستبداد، ثم أُخرجت التفسيرات الفقهية المتشددة من بطون كتب ظلامية لتؤدي دوراً وظيفياً في إضفاء «شرعية» عليه.
بدأت «القصة» عندما أغلقت أنظمة مستبدة أبواب التغيير السلمي، فلجأ بعض من أوصدت هذه الأبواب في وجوههم الى العنف. فكان الاستبداد في مقدمة العوامل التي دفعتهم إلى الإرهاب الذي بدأت مقدماته الأولى، والحال هذه، نتيجة القهر والقمع والظلم.
وهكذا أخذ حاملو الرايات السود مفاهيم مثل الجهاد، والولاء والبراء، وتطبيق الشريعة، وغيرها من خلال أكثر تفسيراتها غلواً، وأعادوا تأويلها بما ينسجم مع اتجاههم إلى العنف المسلح في بداياته الأولى، كما حدث في مصر في الستينات، حين بُدئ بتكوين تنظيمات «دينية» مسلحة.
وتنطوي تجربة أيمن الظواهري الزعيم الحالي لتنظيم «القاعدة» على مغزى مهم في هذا السياق. فقد اتجه الصبي الرقيق الذي هو سليل عائلتين عريقتين (الظواهري وعزام)، والمتفوق في دراسة الطب، إلى التطرف ومنه الإرهاب الذي سماه جهاداً، نتيجة عوامل في مقدمها الاستبداد الذي ملأه غضباً. وهذا ما يُستفاد من روايته قصة تحوله هذا في كتابه «فرسان تحت راية النبي»، إذ شرح كيف أثر فيه إعدام سيد قطب عام 1966 أكثر مما تأثر بكتاباته. قال إنه قرأ «كلمات قطب ممزوجة بدمائه».
وربما كان ما كتبه قطب وقُرىء على هذا النحو مرشحاً لأن يطويه النسيان، أو يُفهم بطريقة أقل مغالاة، لو لم يتم إعدامه. فلا تختلف فكرة «الطليعة الموقتة» عنده جوهرياً عن «الطليعة المتقدمة» أو طليعة البروليتاريا» لدى بعض التيارات الماركسية. لكن إعدامه ساهم في إضفاء معنى «قتالياً» عليها، فأعاد غاضبون متمردون ضد سلطات مستبدة صوغها ضمن مستلزمات توفير مرجعية «شرعية» للإرهاب بوصفه «جهاداً» ضد هذه السلطات التي لم تعد في نظرهم مستبدة فقط، بل صارت «كافرة» أيضاً.
وكان هذا الربط الساذج بين الاستبداد والكفر أوضح لدى شاب آخر في المرحلة ذاتها هو شكري مصطفى، مؤسس «جماعة المسلمين» التي عُرفت إعلامياً باسم «التكفير والهجرة»، إذ تساءل عما إذا كان من مارسوا كل ذلك التعذيب الوحشي في بعض السجون المصرية في الستينات مسلمين حقاً. ولم يجد عقله المحدود البسيط، الذي ساهم في غلقه نظام تعليم متخلف كرسه نظام حكم مستبد، جواباً إلا أن «أولئك الظالمين لا يمكن أن يكونوا مسلمين».
وهذه العلاقة الوثيقة بين الإرهاب والاستبداد ثابتة في كثير من الكتابات التحليلية، ولعل آخرها كتاب إبراهيم الحيدري «سوسيولوجيا العنف والإرهاب». فالاستبداد ينطوي على عنف ضد المجتمع، أو بعض فئاته. ولذلك تنتشر ثقافة العنف عادة في المجتمعات المقهورة، على النحو الذي يوضح كتاب الحيدري كيفية حدوثه في العراق في العقود الماضية. وقد حدث ذلك في سورية أيضاً، وفي بلدان أخرى بدرجات متفاوتة. ولو أن القنابل والصواريخ تقضي على الإرهاب، لصدق بوش الثاني عندما أعلن في أيار (مايو) 2003، وهو في قمة النشوة، أن المهمة أُنجزت، وفق تعبيره، وما كان هناك «داعش» اليوم.
لذلك قد نستطيع القول اليوم، وبثقة أقوى من ذي قبل، إن مواجهة الإرهاب تتطلب إنهاء الاستبداد، وليس التعاون معه أو مساندته في سورية. فمن شأن هذه المساندة أن تدعم الإرهاب فعلياً وتوسع دوائره.
لذلك كله، فليس إلا وهماً أو محاولة لتسويق الوهم السعيُ إلى القضاء على «داعش» من دون تغيير سياسي جذري يؤدي إلى نظام ديموقراطي تعددي يقوم على المواطنة في سورية، وإصلاح حقيقي في العراق، إلى جانب فتح أبواب المشاركة الحرة التي تخلق أملاً بمستقبل أفضل أمام الشباب في غيرهما من بلدان المنطقة. |