وصول الإرهــــاب إلى بــاريـس، واختــراقه كل دفاعاتها، ونجاحه في عمليات عدة في وقت واحد، أمر لا يمكن للغرب السكوت عنه، بخاصة أن الهجوم جاء عقب عمليات ناجحة عدة للدواعش.
أحدثت العملية رضة شديدة للحكومات الغربية التي لا تقبل أن يتجاوز «داعش» الجغرافيا المتاحة له، في سورية والعراق، وربما سيناء وليبيا، أما قلب أوروبا وبهذا الإتقان، فهذا ما عاد يكفي معه تشديد الإجراءات الأمنية، بل لا بد من هجوم كاسح ضد «داعش» والتنظيمات الشبيهة.
هكذا قررت الدول الغربية، وفي مقدمها الولايات المتحدة، وكذلك روسيا والصين والدول الإقليمية، لملمة جهودها وإمكاناتها للقضاء على «داعش» والنصرة وأشباههما على الأراضي السورية، إذ يعتبرون سورية منبعاً لأصناف المجموعات المتطرفة. واعتبرت الدول المشاركة في «فيينا ٢» أنه لا يُقضى على امتدادات التطرف الجائح ما لم يُقطع رأسه في سورية.
وتم التوافق في «فيينا ٢» على إلغاء كل البنود المدرجة على جدول الأعمال، بخاصة النقاط الخلافية، ومناقشة بند واحد فقط: القضاء على «داعش» وأشباهه.
فكل دول فيينا تدرك أن القضاء على «داعش» لا يكون من دون التخلص من الفوضى العسكرية في الأراضي السورية، وتوجيه كل البنادق، كل من موقعها، صوب «داعش» وأشباهه. ولا بد من إنهاء الأزمة السورية لتحقيق ذلك.
هذا القرار لا يحتاج من الدول لكثير من النقاش. يكفيه توافق دولي معلن، ثم اتخاذ إجراءات وقف النار بين الأطراف السورية وغير السورية من غير «الإرهابية» (المجموعات الإرهابية هي تلك التي لن تجد دولة من دول فيينا تحتضنها)، ويتزامن وقف القتال البيني هذا مع تسوية سياسية يسهل تحقيقها بين النظام والمعارضة لأن جميع الأطراف السورية المعنية تحت السيطرة الوصائية للدول الداعمة للأطراف المسلحة.
ما ورد أعلاه ليس كلامي بل تكثيف لما قاله وزيرا الخارجية الروسي والأميركي في مؤتمرهما الصحافي في نهاية اجتماع فيينا. فكيري قال إن الدول الخمس في مجلس الأمن اتفقت على إصدار قرار عن المجلس ينص على وقف النار من دون أن يشمل «داعش» والنصرة والمجموعات الشبيهة. والوزيران تحدثا عن مفاوضات بين السلطة والمعارضة، وعن سلطة انتقالية ودستور جديد وانتخابات وأزمنة وتواريخ. قالا ذلك بالأصالة عن حكومتيهما وبتوكيل من كل دول فيينا، وهي الأطراف في الأزمة السورية أو ذات العلاقة بها، بحيث لم تغب أي دولة عن الاجتماع يمكنها عرقلة ما اتُفق عليه.
قد لا تحصل الأمور وفق سياق اجتماع فيينا، وقد لا تجري وفق الأزمنة والتواريخ التي حددها، لكن بكل تأكيد أوقف اجتماع فيينا صعود الخط البياني لمسار الأزمة ولوى مساره نزولاً. نزوله لن يكون سلساً كما في مرحلة الصعود، فالأرجح أن نشهد الكثير من الانتكاسات في كل أطوار النزول.
الأكثر أهمية ودلالة في فيينا أن القطبين الرئيسين في الأزمة، الروسي والأميركي، قالا العبارة المفتاح: «اتفقنا على حل الأزمة السورية»، من دون ذكر أي من خلافاتهما الكثيرة. هذه العبارة حال غيابها دون قبولنا الدعوات المتكررة للسفراء الأميركي والبريطاني والفرنسي للمشاركة في مؤتمر «جنيف٢»، وذلك لقناعتنا بأنه لا يمكن الانطلاق بحل الأزمة قبل إعلان هذا التوافق. حال هذا الأمر كحال مسألة توحيد المعارضة الذي استعصى عن التحقق لأكثر من أربع سنوات، لكنه منذ أيام أُنجز بسهولة لافتة في مؤتمر الرياض بعدما توافقت الدول على ذلك. فشهدنا توحيد قول غالبية قوى المعارضة إضافة إلى فصائل مسلحة «معتدلة» من دون أي إشكالات ومشاكل. بل، وأنا شاهد على ذلك، جرى المؤتمر وكأنه بين أعضاء تنظيم واحد.
توحيد المعارضة كان الخطوة الأولى في العملية السياسية لفيينا، والتي باتت شبه حتمية. وستكون الخطوة المقبلة بعد أيام، وقد تكون قفزة مزدوجة تجمع المفاوضات ووقف النار. والأمر لن يطول حتى تبدأ ملامح المرحلة الانتقالية بالظهور مع قبول جميع الأطراف بصيغة «لا غالب ولا مغلوب»، هذه الصيغة التي اتُهمنا بكل موبقات السياسة حين قلناها قبل أكثر من أربع سنوات، وأضفنا إن كل الضحايا والخسائر بعدذاك ستكون مجّانية ولن تغيّر المعادلة التي استقرت مذاك: «لا غالب ولا مغلوب»، وأن المآل طاولة مفاوضات تودي إلى سلطة خليط من جميع الأطراف.
لكن الأوضاع، كما يعرف الجميع، باتت أسوأ بما لا يقاس عما كانت عليه في ٢٠١١ و٢٠١٢. والأسوأ فيها خلوّ مواقع صنع القرار من أشخاص مؤهلين لصنع القرار، إذ تكرست طيلة السنوات الأربع الماضية شخصيات تتباهى بدعم الدول لها، وتستقوي على خصومها وأصدقائها بتبعيتها لهذه الدول. ينطبق هذا بالمطلق على قطاعي النظام والمعارضة.
وهذا جانب يفوّت على السوريين إمكانية استغلال الفرصة المتاحة لهم نتيجة التسوية السياسية التي سيفرضها المجتمع الدولي على جميع الأطراف السورية. لكن العجالة التي يعتمدها المجتمع الدولي في تعاطيه، وارتجاله في كثير من المواقف نتيجة تعدد الأطراف الدولية والمتعارضة، ستتيح فرصة خلق حيّز سوري، ولو محدود، ضمن مظلة الوصاية الدولية غير المعلنة التي تخضع لها سورية، أي: هناك إمكانية جيدة لزرع بذرة خصبة لسيادة وطنية مفقودة. فإن لم تُزرع الآن في شكل واعٍ وحذق ستبقى سورية فاقدة سيادتها لعصر أو أكثر، وسيكون حالنا كجيراننا اللبنانيين العاجزين منذ أكثر من سنة ونصف سنة عن اختيار رئيس لجمهوريتهم، وعن انتخاب مجلس نيابي جديد أو تنصيب حكومة قادرة.
فشلنا كمعارضة في ذلك في تجربتنا الأخيرة في مؤتمر الرياض، فلم نتمكن من التقدم خطوة على الدول على رغم الفرصة المتاحة. فكثير من المعارضين اعتادوا انتظار توجيهات الدول للقيام بأعمالهم، ويصعب عليهم الآن الاعتداد بالذات في هذه اللحظات الضيقة التي ستودي بالتأكيد بعديد الأشخاص والشخصيات.
أمام هذا القلق الشخصي لجأ بعض كثير منا للاستقواء بالدول ليضمن بقاءه في المرحلة المقبلة، من دون أن يهتم بأن هذا يساهم أكثر فأكثر بتكريس فقدان السيادة، وتركز اهتمامه على أن الاستعانة بالدول أقل مخاطرة من الاحتكام لآراء وأحكام سوريين آخرين.
لم أتقصد إغفال موضوع الأسد، فالدول هي التي أغفلته. |