التاريخ: كانون الأول ٢٠, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
«النمر» الذي ينطق تماماً كالنظام - عمر قدور
ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بالتسجيل الذي تداوله ناشطون سوريون، ويظهر فيه العقيد سهيل الحسن الملقب بـ «النمر» يدلي بتصريح لمراسل التلفزيون الرسمي السوري. الحديث كان مثار سخرية واسعة، المراسل نفسه بدا مبتسماً كأنه يسخر من إجابة «النمر» المفككة، وبادرت صفحات مؤيدة للتهجم عليه والقول إنه ورّط «النمر» في الحديث وكان منهكاً من القتال والانتصارات العسكرية التي يحققها، وهو اعتراف بالركاكة الشديدة لما أدلى به أحد رموزهم.

ومع أن التسجيلات التي ظهر فيها سهيل الحسن من قبل لا تخلو من الركاكة، فإنها المرة الأولى التي يُبثّ فيها مثل هذا التسجيل الموجه إلى الإعلام، بينما كانت التسجيلات السابقة تقتصر على وسائل التواصل الاجتماعي، وتُظهر صاحبها متوجهاً بالحديث إلى عناصره.

على غرار رئيسه، يبدأ الحسن إجابته بمحاولة إنشاء تعريف يبدو مفخّماً. يقول في الإجابة عمن يُفترض أنهم أعداء العالم الإرهابيون: على العالم كله أولاً أن يعرف عدو العالم، وعلى من يدعم أعداء العالم أن يعرف أنه ليس من العالم. وإذا كان يظن من يقول غير ذلك فلينتظر منا ولينتظر منهم، أقول منهم أعداء العالم، البرهان والدليل.

صاحب العبارة يستخدم الحركات للتشكيل، إصراراً منه على إلمامه باللغة، بل يــختم مؤنـبـاً المراسـل بالطلب منــه أن يكون السؤال واضحاً لتكون الإجابة كذلك. غير أن ما يبدو حادثة طريفة لها دلالات أبعد، ولا يجعل الحادثة معزولة أن يسخر منها المعارضون ويتبرأ منها الموالون، فالحسن نطق تماماً بما يمليه عليه النظام، أو بما يمليه عليه تحصيله العلمي والمعرفي في ظل الأسدين الأب والابن.

إلى سنوات قريبة خلت، كان بوسع الطلاب السوريين في امتحاناتهم تأليف ما يشاؤون من اللغو «الحميد» وإلصاقه بأقوال القائد حافظ الأسد، في امتحانات متعددة مثل مقرر «الثقافة القومية» أو مواضيع الإنشاء في مقرر اللغة العربية، ولأن صاحب تلك الأقوال «المُفترض» بات في مرتبة القداسة كانت غالبية الطلاب تنال الدرجات المأمولة، ولا يُعقل أصلاً أن يوجد بين مَنْ يصحح الإجابات أحد يلم بكل خطابات القائد وأقواله في مؤتمرات الطلائع والشبيبة والفلاحين والعمال والحرفيين والنساء، وفي مناسبات الثامن من آذار والسادس عشر من تشرين الثاني( نوفمبر) والسادس من تشرين الأول (اكتوبر)... إلخ!

الانعطافة الكبرى حدثت في خضم المواجهة مع الإخوان مطلع الثمانينات، فحينها قرر حافظ الأسد أنه خطيب مفوّه، وحينها تتالت خطاباته على نحو غير مسبوق، وطاولت فيها الفقرات المرتجلة التي يُراد بها إظهار براعته اللغوية، أو بالأحرى براعته في إنشاء لغوي متكلف. كانت الخطابات تُنقل مباشرة على القناتين التلفزيونيتين الرسميتين اللتين لا خيار لدى السوريين سواهما، ويُعاد بثّ الخطاب لمرات طوال أيام، أما الصحف الثلاث الرسمية التي لا وجود لغيرها فأعلى صفحاتها الأولى محجوز يومياً لمقتطفات من أقواله، قبل أن يشاركه الوريث ذلك الامتياز، فيأخذ كل منهما زاوية في الأعلى.

المسألة بدقة لا تتعين في فائض مظاهر الاستبداد، أي أنها ليست شكلانية كما يبدو للوهلة الأولى، لقد كانت أكبر عملية استيلاء على اللغة وتجريف لها من المعنى. لم يكن حافظ الأسد يتكلم ليقول شيئاً لمستمعيه، ولم يكونوا هم أنفسهم ينتظرون منه سوى تكرار ما ألفوه بصياغات يخالها جديدة، بينما يتحين إعلاميوه عبارة ناجزة تصلح للكتابة على الجدران أو اللافتات، أو حتى يتم تسويقها كمأثور، إن لم نقل كمقدّس، بل لعل الاحتمال الأخير هو الأقرب إلى الصواب إذ كان منتظراً من المتلقي الإيمان بتلك العبارات لا التفكّر فيها ومن ثم المغامرة باكتشاف تهافتها.

هكذا مثلاً، توجب على آلاف الرياضيين العبور من تحت لافتة كُتب عليها: إني أرى في الرياضة حياة. وهي بالتأكيد أرأف من لافتة تنص على: الشهداء أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر!

لم يكن عابراً أو طارئاً إحلال اللغو مكان اللغة، فمنذ قرر حافظ الأسد اتخاذ مكانة الضالع في اللغة قرر المنحى الذي ينبغي أن تأخذه لغة عهده، وهو أن تنفصل عن الواقع، وأن تنفصل باطراد عن معنى السلطة المتجسد بالعنف المجرد. الانفصال عن الواقع هنا هو عنف إضافي يُمارس على المحكومين، إذ يُحرمون باطراد من المعنى المُغيّب، وتُحرم معاناتهم من سلطة المعنى مهما كانت ضئيلة هذه السلطة. تشكّل ذلك اللغو على هيئة نسق إعلامي وتعليمي متكامل هدفَ إلى تنشئة أجيال تقول ما يقوله «الأب» تماماً، بالمعنى الفرويدي، أي أن السلطة لم تعد في موقع الرقابة النفسية فحسب، وإنما تعدّته إلى موقع الاستنساخ المطلق.

في أذهان غالبية السوريين أن الأسد الابن ركيك لغوياً إذا قيس بالأب. هذه علامة على نجاح الأب على أكثر من مستوى، فهو على المستوى العام نجح في إقناع شريحة كبيرة ببراعته، من دون التفكر فيها فعلاً، وعلى المستوى الشخصي نجح في السيطرة على وريثه بحيث يبقى ماثلاً أمامه كتحدّ لا يستطيع التغلب عليه، ولا يستطيع مقاومة إغرائه. الخلطة التي لا يصعب إدراكها، في خطابات وأحاديث الابن، تتراوح بين العديد من العصابات، فالركاكة والتفكك يحيلان على خلل أوديبي يعتبره لاكان من أهم عوارض الذُهان، بينما تحيل البارانويا الواضحة في النظر إلى العالم إلى تمثّل أوديبي لا تسنده سوى صورة ذاك الأب القوي.

إجابة «النمر» عن سؤال المراسل التلفزيوني تحمل الإشكال ذاته، فهو لا يستطيع التحدث بتلقائية أمام العدسة، بل على الأرجح راح يتمثّل فصاحة الرئيس الأب ومحاولة الابن التخلص منه في آن. ولأن هذه الخلطة محكومة بتناقض نفسي صارخ، يستحيل عليها أن تنتج لغة أو لغواً، إنها تنتج عجزها فحسب.

ربما يتساءل «النمر» محقاً، بعد الضجة التي أثيرت حول التسجيل، عما اقترفه زيادةً عن غيره. ربما يقارن أقواله بأخرى شبيهة، تعلّمها بوصفها أقوالاً مأثورة، فيرى ظلماً كبيراً قد حاق به. الأكيد أن العسكر عموماً لا يسعون إلى فهم تلك التناقضات، ولا إلى تعزيز براعتهم اللغوية المفتقدة. عادة، يتركون للميدان أمر تخليصهم من ذلك العبء.