التاريخ: كانون الأول ٢٠, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
في محاكمات «النخبة» ولعن «المثقّفين» - محمد الحدّاد
يتوازى تراجع الآمال في مستقبل الربيع العربي مع العودة إلى إحدى السرديات المألوفة في الخطاب العربي، سردية إفلاس النخبة وخيانة المثقفين. تعود هذه السردية بحدّة أكبر هذه المرّة، وبغباء أكبر أيضاً، إذ تمثّل نقطة تقاطع بين اتجاهين يقفان على طرفي نقيض.

فهناك أولاً، دعاة الأصالة المقتنعون أشدّ الاقتناع بأنّ كل مصائبنا ومآسينا إنما تعود إلى استبدال الأنظمة الأصيلة بالأنظمة الدخيلة، وأن هذا الاستبدال حصل من الثقب الذي أحدثه المثقفون في طبقة الثقافة الأصيلة فلوّثوا من خلاله البلاد والعباد، وقد حان الوقت لمحاسبتهم والتخلّص من شرورهم والعودة إلى قادة الرأي التقليديين، من فقهاء وشيوخ وعرّافين، تستعاد ببركاتهم السكينة والصفاء والطهارة.

وهناك ثانياً، دعاة الحداثة الفائقة المصرّون على أنّ التاريخ تطوّر خطّي أبدي، فهم يقيسون بمسطراتهم المعصومة مدى الملاءمة والخيانة، فإذا كلّ من يحاول أن يجد صياغات للتحديث تأخذ بالاعتبار تضاريس الميدان ومكبّلات الواقع واستعدادات العقول المتلقية، هو خائن، لا أكثر ولا أقلّ، ما لم يكن منافحاً عن آخر صرعات الحداثة وإن كانت بعيدة من مشاغل المجموعات التي يتوجّه إليها الخطاب.

وبين القطبين، تنحشر فئات كثيرة ومتنوعة من الغاضبين المساهمين في طقوس اللعن، من المناضلين الذين اكتشفوا على أرض الواقع أنّ ثقافتهم لم تفدهم في شيء، إلى السياسيين الجدد الذين يثأرون من عهد كان مطلوباً فيه لمن يمارس السياسة أن يقرأ بعض الكتب ويثبت القدرة على تحرير المقالات الطويلة، إلى المغمورين الذين خفّفوا من وقع إحباطاتهم النفسية بإقناع أنفسهم بأنهم عباقرة لم ينصفهم التاريخ، وهلم جرّا. لكن المشكل ليس هنا. المشكل أنّ المماهاة بين «النخبة» و «المثقف»، وهي مسلمة كل خطابات لعن المثقفين، هي شيء وهمي ولا وجود له. النخبة في مجتمعاتنا لا تضمّ المثقفين وإنما توظف بعضهم لديها كما توظف غيرهم. وفي العالم المعاصر أيضاً، لم يعد المثقفون جزءاً من النخبة. انتماء المثقّف إلى النخبة ظاهرة استثنائية ومحدودة في الزمان والمكان، حصلت في الغرب مع الثورات الكبرى الإنكليزية والأميركية والفرنسية واستمرت إلى الثورات الشبابية في نهاية الستينات، وانتهى الأمر هناك. بعد ذلك، أخذت الميديا وتكنولوجيات الاتصال مكان الثقافة بالمعنى الكلاسيكي وأصبحت صناعة قائمة الذات، وأصبح موقع المثقفين في أحسن الحالات مثل الصناعات التقليدية التي تسعى الى الاستمرار في عصر الصناعات الثقيلة، إنهم نخبة بمعنى الحفاظ على الاستمرار وليس بمعنى احتلال الموقع المحوري في الوضع الجديد.

ومع ذلك، فإن ثمة شيئاً غريباً، فهم بهذه الهامشية في الدور يحمَّلون باستمرار خيبات هذا الوضع الجديد ويعتبرون مسؤولين عنها. خذ مثلاً، ما دُعي بالربيع العربي، لم يكن للمثقف فيه دور متميز، وإنما استفاد مما استفاد منه الجميع، أي رفع الرقابة عن الكلمة. وبما أن مهنته تجعله يحسن فنّ الخطابة والكتابة، فربما استفاد أكثر من غيره في الظهور، لكنه لم يستفد أكثر من غيره في التأثير. يكفي أن نقارن وضعه بوزن حركات الإسلام السياسي التي لم تنتج على مدى عقود شخصاً واحداً برع في ميدان من ميادين الثقافة المعترف بها، أو نقارنه بمافيات المال التي حوّلت الثورات الاجتماعية العربية إلى ليبرالية متوحّشة بلا منظرين أو خبراء، أو نقارنه بمالكي القنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي، الذين أصبحوا الموجهين الحقيقيين لتفكير الناس والمحدّدين لاهتماماتهم ومشاغلهم.

لماذا إذاً هذا الإصرار المحموم على تحميل النخبة المثقفة نتيجة الفشل، مع أنه لم يسند إليها في فترة التفاؤل شرف صناعة النجاح؟ السبب واضح. فإذا تركنا جانباً لعبة جلد الذات التي يستهويها البعض، وفي هيئات مضحكة أحياناً، مثل ذاك الذي يرمي من حصنه الباريسي المريح كلّ المثقفين بالخيانة والجبن، أو الآخر الذي يوظّف بأموال المرفهين باحثين شباناً لكتابة كتبه، فالأهم والأخطر أنّ النخبة الحقيقية، أي أصحاب المال وصناعة الإشهار والإعلام، عازمة في ما يبدو على تدعيم هيمنتها بالتخلّص من كلّ ما يعيق شرعيتها، ومن يشاكسها في مشروع بناء الثقافة الجديدة القائمة على سيطرة التكنولوجيا الإشهارية والإعلامية مقابل إفقار الجامعات ومراكز البحث، كي تكون الثقافة الجديدة تحت الطلب ووفق الدفع. وفي الأثناء، سيكون مفيداً أيضاً إحياء طرق التوجيه القديمة للرأي، بتعطيل العقل واعتماد الفتوى، فذاك أيضاً من آليات التحكّم بالعقول.

لقد نشأت الحداثة الحقيقية عبر مرحلتين: في مرحلة أولى، اكتسب الإنسان الحقّ في أن يؤمن بضميره الفردي ويحدّد خلاصه الديني بعقله لا بسطوة المجتمع عليه، ثم في مرحلة ثانية اكتسب الحقّ في أن يسيّر السياسة بعقله، لأنه إذا كان قادراً أن يحدّد بهذا العقل شؤون الخلاص فأولى أن يكون قادراً به على إدارة شؤون الدنيا «الفانية». أما حداثتنا «الأصيلة»، فتسير في الاتجاه المعاكس: إخضاع العقل الديني لسطوة الفتوى وإخضاع العقل السياسي لسطوة الصناعة الإعلامية. لذلك، لا بدّ من التخلّص من كلّ من يجرؤ، ولو بقلم حبر عاجز أمام صناعات التلاعب بالعقول، على أن يشوّش على المشهد الجديد ببعض الأسئلة المشاكسة. لا بدّ من أن تنطفئ آخر الشموع وتحرق آخر الكتب ويسكت آخر الفلاسفة كي تستقرّ الثقافة الجديدة، وكي ننتقل عربياً من عصر الأيديولوجيات إلى عصر الفهلوة الفكرية، وكي تستعمل مقولة إفلاس النخبة وخيانة المثقف غطاء لإبعاد المسؤولية عن النخبة الحقيقية... وعن الخونة الحقيقيّين!