عندما تتعثّر عمليّة صنع السياسات في لبنان بسبب الخلافات،
غالباً ما نسمع بعد ذلك أنّ الفساد قد أطلّ مرّةً جديدة بوجهه القبيح. والأرجح أنّ الأمر نفسه سيحدث
الآن، إذ أنّ الحكومة اللبنانيّة قد عجزت طوال سنتين عن الموافقة على مرسومين يلزمان لإطلاق الإنتاج
النفطي؛ يتعلّق أحدهما بتقسيم المنطقة الإقتصاديّة الخالصة للبنان إلى رُقع، فيما يتعلّق الآخر بالعلاقة
بين الدولة والشركات الّتي ستستغلّ الموارد الّتي يمكن إيجادها في هذه
الرقع.
لمّا سمع اللبنانيّون بخبر إمكان وجود إحتياطات كبيرة من النفط المدفون
في بحرهم، أحسّ العديد منهم بشكل حدسي بالنعمة الممزوجة بالنقمة الّتي قد تتأتى عن ذلك. وسبق للعديد من
المعلّقين، اللبنانيّين منهم والأجانب على حدٍّ سواء، أن نبّهوا من خطر تفشّي الفساد في القطاع النفطي
في لبنان، وذهب البعض حتّى إلى اعتباره حتميّاً. فهم يشتبهون كلّ على حدّ تقديره بأنّ الفساد سينتج
بمستويات عالية عن ذاك الخليط البائس الّذي يضمّ شركات النفط الدوليّة الّتي لا تتمتّع بصيت حسن لناحية
نزاهة الممارسات وشفافيّتها، والطبقة السياسيّة في لبنان الّتي تُعتبر إلى حدّ كبير فاسدة وجشعة والّتي
لا يُنظر إليها بعين الثقة؛ إضافةً إلى المسار السياسي المختل، والمقسّم، والمعطّل، والموجّه في أفضل
الحالات نحو المحاصصة.
وليكون لبنان جاهزا لهذا التحوّل المحتمل إلى منتج
أساسي للنفط والغاز، لا بدّ من فهم مخاطر الفساد المتّصلة بقطاعه النفطي الناشئ ومعالجتها. ومن المفيد
في هذا الصدد تقويم مخاطر الفساد على امتداد "سلسلة القيمة" الخاصّة بصناعة النفط والّتي تتضمّن عادةً
عمليّة التنقيب، وعمليّة الإنتاج، ومرحلة ما بعد الإنتاج أو وقف التشغيل. ويمكن لفرص الفساد ومخاطره أن
تتعزّز مثلها مثل الإيرادات والنفقات الناشئة عن استخراج النفط والغاز، وذلك بشكل متفاوت في كلّ مراحل
"سلسلة القيمة"، بحسب صلابة الأُطُر والمؤسّسات التنظيميّة المكلّفة بدعمها. وحتّى هذه الساعة، ما زال
التشريع الصادر أو المنوي إصداره لجهة زيادة الشفافية والمساءلة في القطاع النفطي الناشئ في لبنان
بعيدًا عن المثاليّة، ولا يقي من الفساد، رغم كونه مشجّعاً. ويكمن التحدّي الأساسي ضمن هذا السياق،
سيّما في ظلّ التركيبة السياسيّة الحرجة في لبنان، في اختيار السياسة الصحيحة لدعم هذه النيات الحسنة،
وتحسين المؤسسات والسياسات المتّصلة بالقطاع الّتي سبق أن أرسيت
وتعزيزها.
ويمكن اقتراح العديد من الحلول القانونيّة والمؤسسيّة في هذا الصدد،
بما في ذلك ضمان الشفافيّة التامّة بدءا من عمليّة التأهّل المسبق، مرورا بالإفصاح عن اتفاقيات التنقيب
والإنتاج، وتكليف مصرف لبنان المعزول نسبيّاً بإدارة صندوق ثروة سياديّة، إلى إنشاء شركة نفط وطنيّة
يكون المواطنون اللبنانيّون المساهمين الأساسيّين فيها، فيتمّ تاليا توزيع الإيرادات النفطيّة على
المواطنين بشكل مباشر، أو استخدام الإيرادات بشكل أساسي لتسديد الدين الّذي يثقل البلاد. ولا بدّ من
النظر بتمعّن في جميع هذه الاقتراحات، إلاّ أنّ أيّاً منها لن يشكّل حلاًّ سحرياً وإن تمّ
تطبيقه.
لكن، يبقى الأهمّ أنّ يستغلّ المجتمع المدني والجمهور العريض في لبنان
الفرصة والزخم المتمثّلين بإرساء هيكليّات حوكمة النفط لإيجاد أرضيّة مشتركة للمطالبة بالشفافية
والمساءلة وإنفاذهما. وسبق لمنظّمات مجتمع مدني أن أُطلقت مبادرات متواضعة وإنمّا واعدة بهدف زيادة
الوعي العام والمعرفة المتصلين بقطاع النفط وحوكمته، ولرصد التغطية الإعلاميّة لهذا الموضوع في لبنان،
مع العمل على تعزيز قدرات الإعلام. ولكن، نظرا الى طبيعة المجتمع المدني اللبناني المفككة، والميل الشاذ
إلى إغراق المطالب والإقتراحات فيه ضمن عمليّة سياسيّة معطلة ومشلولة هي الأخرى، ليس من المضمون أن
المجتمع المدني سوف يمارس الرقابة الفعليّة ويقوم بالتدقيق اللازم لئلاّ يستحيل حلم النفط في لبنان
كابوس فساد.
وتتطلّب المساءلة الفعّالة في القطاع تغييرات جذريّة في العلاقات
بين الطبقة السياسيّة والناخبين في البلاد، وكيفيّة تفاعل كلّ من الطرفين مع الدولة، أو كيفيّة تأثيرهما
عليها. لكن، لا يُتوقّع من دولة تكتشف احتياطات كبيرة من الموارد الطبيعيّة أن تنتظر تحقق هذه التغييرات
الجذريّة قبل الشروع في الإنتاج. إلاّ أنّ إجراء حوار وطني حيويّ ومطّلع حول خصائص وتقنيّات القطاع
النفطي في لبنان يمكن أن يساعد على توفير المتطلّبات الأساسيّة لهذا التغيير السياسي الأوسع، كما على
توفير الشروط المؤاتية لصدّ مخاطر الفساد إذا بدأ إنتاج النفط ومتى بدأ، مؤذناً ببدء تدفق
الإيرادات.
يُعتبر الإتفاق السياسي الّذي سيتمّ التوصّل إليه في نهاية المطاف
لحلّ الأزمة الحاليّة حول المرسومين المتّصلين بتحديد الرقع وترتيبات العقود مع شركات النفط اختبارا
أوّليّاً وحاسماً. فالرهان كبير جدّا،ً ولا يحتمل بأن يُسمَحَ للمحاصصة أن تعمم الفساد من
جديد.
أستاذ مشارك كلية كينغز (لندن) وباحث في المركز
اللبناني للدراسات |