بعد سنتين وأكثر من الحصار المطبق، أسلم حي الوعر الروح. أطلق آخر أحياء حمص، «عاصمة الثورة» السورية أنفاسه في حافلات نقلت المسلحين وعائلاتهم إلى وجهات شبه معروفة في الريف الشمالي ومصائر مجهولة تماماً، لتصبح المدينة بأكملها تحت سيطرة النظام استعداداً لعودة «مؤسساته» المزعومة إليها.
قوافل المساعدات الإنسانية والهلال الأحمر التي بدأت تصل إلى الأهالي قبل ترحيلهم، ووعود «تسوية الأوضاع» بالنسبة للمقاتلين جعلتهم يتجرعون السم بشيء من التسليم والرضى، كما جرى من قبلهم مع أهل الزبداني وغيرها من مناطق «التسويات» والهدنات المفروضة بقوة الحصار والجوع.
صحيح أن حي الوعر تحديداً لم يكن من أول الأحياء المنتفضة في حمص، ولا حمل ثقل الثورة كأحياء أخرى مثل الخالدية وبابا عمرو، وصحيح أيضاً أن تبادل الخدمات وفرض الخوات بين حواجز الجيش النظامي والشبيحة من جهة وبعض حواجز الفصائل المقاتلة من جهة أخرى كان يجري على قدم وساق عند مداخل الحي ومخارجه، لكن يبقى لإخضاع آخر معاقل الثورة في عقر دارها، طعم مر وموجع.
حمص تعود بكاملها إلى «حضن الوطن». هل من مرارة وانكسار أقسى؟
مر سقوط المدينة بهدوء نسبي، أو ربما لم يكن مفاجئاً لكثيرين بعدما ذهبت الأمور إلى تسويات سياسية كبرى، لكن يبدو أنه كان مخططاً لها منذ زمن. ففي تقرير لم ينشر كاملاً لمستشارين من فريق المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، ويعود إلى مطلع العام الحالي، ثمة شرح مستفيض عن «النجاح في إبرام صفقات الهدنات، وضرورة الاستمرار بها لوقف التصعيد الحربي عبر استقطاب المقاتلين المعارضين للنظام سواء بالقتال إلى جانبه ضد «داعش» أو بالتخلي كلياً عن السلاح». ويستشهد معدو التقرير بـ «نجاح تجربة الهدنات في العراق في 2007، وضرورة استعادتها في سورية».
وفي خطة كاملة وطويلة النفس لإخضاع المناطق الثائرة بإشراف دولي، اعتبر التقرير أن «الحرب هي المشكلة الأولى في سورية. فهي التي تتسبب بالموت، والدمار، والتهجير، والفقر والطائفية (...). والحرب تسببت في اعتقال عشرات الآلاف من الأشخاص، وتعذيبهم وقتلهم على رغم أنهم في غالبيتهم أبرياء من أي نشاط معاد للنظام». وإلى ذلك، قدم فريق العمل شهادات تفيد بأنهم راقبوا عن كثب حسن إدارة النظام للمناطق العائدة إلى كنفه، وحسن معاملة سكانها معتبرين أن الهدنات هي «السبيل الوحيد لعودة المدنيين إلى حياتهم الطبيعية، واستعادة أعمالهم، ويشعروا عن حق بجدوى قرارهم الشجاع في تقديم التنازلات».
هكذا، يأتي تسليم حي الوعر للنظام، كقطعة أخيرة من «بازل» التهدئة ومحاربة الإرهاب، كما و»يصب في صلب القرارات الشجاعة» بعد سنتين ونصف السنة من التجويع والإفقار، فيما لا تزال مصائر المعتقلين والمختفين قسراً في ذمة بند من بنود التفاوض.
لكن ماذا جرى في هدنات اليرموك والزبداني والقصير وبابا عمرو؟ هل نذكر مفاوضات بابا عمرو مثلاً؟ أين ذهبت تلك الحافلات كلها ومن عاد منها ومن بقي؟ ربما لم يتسن لفريق التدقيق البحث في تلك التفاصيل وقياس درجة الشجاعة، طالما صمت صوت الرصاص. لم يمض وقت طويل لننسى خروج المسلحين من حمص القديمة ثم إلقاء القبض عليهم بعد وعود بـ «تسوية» أوضاعهم، ولا «فخ» مدرسة الفردوس واعتقال العشرات فيها وتجويعهم ثم تصفيتهم تدريجاً. آنذاك خرجت باصات كما باصات الوعر بالأمس، ورفعت لافتات تحتفل بالهدنة وعودة الأحياء المتمردة إلى كنف الدولة، على خلفية دمار هائل وهياكل قطط ماتت جوعاً.
لسبب غير مفهوم ولا منطقي ربما، يعيدني تسليم حي الوعر للنظام، إلى جريمة اختطاف الناشطين الأربعة في دوما، رزان وســميرة ووائل وناظم، وهو للمفارقة جاء متزامناً مع الذكرى الثانية لاختفائهم. أفكر بتلك الهدنة غير المعلنة التي جعلت مصيرهم على ما هو عليه الآن... مصير يتشابك بمصائر أخرى قد تفضي إلى حضن الوطن أو حضن ثورته، لا يهم طالما ثمة من هو مستعد لإخضاع المدن، والأحياء والأشخاص.
لا تترك صور الخارجين من حي الوعر وإصرارهم على الاعتذار عما دفعوا إليه دفعاً إلا الغضب والألم. صفحات التواصل الاجتماعي حفلت بصور «رزان ورفاقها»، ومقاطع فيديو لأولى تظاهرات حمص مذيلة بالعبارة الشهيرة «عندما أرحل تيقنوا أني بذلت ما في وسعي لأبقى». ربما يفيد تذكير مستشاري دي ميستورا بأن الشجاعة تكمن في محاولات البقاء وليس في تقديم التنازلات، لكن لا مكان للكلام في السياسة هنا. فالسياسة تحاك هناك. في الرياض وفيينا وجنيف وغيرها من عواصم القرار... أما ما يبقى من «عاصمة الثورة»، فمجرد دفق عاطفي وحنين لأمكنة شهدت ذات يوم انطلاقة حلم بالحرية. |