لم يطرأ جديد على مواقف الفرقاء المتناحرين في ليبيا. فكلما تقدم طرف خطوة إلى الأمام، عاد الآخر أكثر منها إلى الوراء. ولا يبدو أن تغيير موفد دولي من الأمم المتحدة يعكس وحده تحولاً في المواقف. ونادراً ما يكون حظ المبعوثين مشجعاً، إذا لم يرافقه زخم إيجابي مماثل من شركاء الحوار في أي أزمة وحول أي قضية.
التطور اللافت في إدارة جولات الحوار التي استغرقت مسافات في الزمن ومساحات في الاستضافة عبر عواصم مغاربية وعربية دولية، أن ضوءاً خافتاً بدأ يلوح في نهاية النفق، يفيد باحتمالات شبه قطعية بأن الفرقاء سينزلون من مراكبهم لإبرام اتفاق تأليف حكومة وحدة انتقالية لم يعد يقبل المماطلة أو الإرجاء.
العامل الجديد الذي حتم الذهاب إلى ضفاف هذه المرحلة، أن الليبيين ودول الجوار والشركاء الأوروبيين والمجتمع الدولي نفد صبرهم حيال التردد الذي طبع مسارات المفاوضات، ليس بهدف الرغبة في إنهاء مشهد الاقتتال والتناحر الذي هيمن على الأوضاع في ليبيا منذ سنوات، فهذه مسألة يمكن أن تطول إذا لم تتعطل مصالح أكبر في تدفق النفط عبر شريان توريده، ولكن بسبب تزايد حجم الأخطار التي يمثلها تمدد التنظيم الإرهابي «داعش» على مساحة لا تفصلها عن الضفة الشمالية للبحر المتوسط أميال كثيرة، عدا أن الشريط الساحلي الذي تبحر منه البواخر المحملة بالنفط الليبي بات أقرب إلى سيطرة كاملة لتنظيمات متشددة.
المفارقة في تطورات الأحداث أن باريس التي كانت أكثر حماسة، ضمن حلف الناتو لاقتلاع جذور نظام العقيد معمر القذافي إبان فترة غليان الشوارع العربية، هي نفسها التي باتت تدفع في اتجاه تصعيد المواجهة ضد الأخطار بعد تعرض أمنها وسلامة مواطنيها لأعمال إرهابية وحشية.
قبل ذلك، جيّشت البلدان الأوروبية أساطيلها للحد من أشكال النزوح والهجرة غير الشرعية وتدفق عشرات الآلاف من اللاجئين على أراضيها، هروباً من نيران القصف في سورية والعراق وليبيا. إلا أن البعد الإنساني الذي حرك المشاعر إلى درجة إجازة استخدام القوة ضد أباطرة تهريب البشر، لم يكن محفزاً وحيداً، بدليل أن نزوح اللاجئين من مناطق الاقتتال كان قائماً من قبل في بلدان أفريقية وآسيوية ولم يحرك السواكن بالدرجة نفسها.
في الحالة الليبية يقترن تمدد الظاهرة الإرهابية بحاضنة جاذبة تتمثل في وفرة السلاح الذي يباع في الشوارع مثل الخضر والسلع المنزلية، وفي انتقاله عبر كل الاتجاهات إلى دول الجوار، بخاصة الامتداد الأفريقي إلى منطقة الساحل التي أصبحت بدورها بؤرة توتر تتماهى وأوضاع الانفلات في شرق العالم العربي وغربه. لكن ما ساعد في رفع درجات التأهب الإقليمي والدولي، أن احتمال تحول الفضاء الليبي إلى ملاذ آخر ليس مستبعداً، حتى أن «داعش» أضحى يعلن عن نفسه ويوقع عملياته الإرهابية ببصمات استقرت في ليبيا.
غطت الحرب على الإرهاب كل الأجواء. وهي لا تكون كذلك عندما تتعرض دولة عربية لهجمات إرهابية يكتفي المجتمع الدولي بإدانتها والتعبير عن القلق المتزايد إزاء اتساع نطاقها. لكن عندما يكون الاستهداف غربياً، مع أنه مدان في كل أشكاله ومهما كانت مصادره، يتسع نطاق ردود الفعل. وكم من مرة نبه قادة ومفكرون وخبراء عرب إلى أن نيران الإرهاب ليست صديقة لأحد، فهي عدو للحضارة وثقافة التعايش والحوار والتساكن.
لا يهم إن كانت ردود الأفعال تقاس بتضرر المصالح، فالأهم أن وحدة الوعي بتناسل الأخطار الإرهابية أصبحت ناظماً دولياً مشتركاً حتّم وضعها ضمن الأسبقيات ذات الأبعاد الاستراتيجية. ولئن كان الفرقاء الليبيون أدركوا نفاد صبر المجتمع حيال ترددهم في الذهاب نحو الإمساك بالخيط الرفيع لبداية انفراج ما، فإن الآمال المعول عليها في إبرام اتفاق السادس عشر من الشهر الجاري، تتجاوز مجرد الاتفاق على تأليف حكومة وحدة انتقالية، نحو انتقال الاقتتال إلى استخدام المنافسات السياسية، فهي أجدى على أي حال، قبل أن يحظر على العرب والمسلمين تنفس الهواء. |