التاريخ: أيار ٦, ٢٠١٤
الكاتب:
المصدر: معهد العربية للدراسات
 
الصدام القبلي في صعيد مصر.. أسوان نموذجا
خلال العقود الأخيرة، شهد المجتمع المصري العديد من التحولات العميقة والسريعة في اتجاهات عشوائية غير مخطط لها، لا من قبل الدولة ولا المجتمع المدني، وعلى الرغم من أن النمو الاقتصادي حقق معدلات جيدة تجاوزت ال7% في بعض السنوات خلال فترة حكم الرئيس مبارك، إلا أن ثمار هذا النمو ظلت حكراً على شريحة محدودة من النخبة، كما تركز النمو بشكل واضح في القاهرة والإسكندرية ثم عواصم المحافظات تليها المراكز على حساب الأرياف، وفي ظل وضع غير متوازن تماماً لصالح الوجه البحري القريب من العاصمة المركزية والأقدر على التأثير فيها، في مقابل نسيان شبه كامل للمناطق الطرفية القريبة من الحدود ولأرياف الصعيد الذي يصل عدد قراه الفقيرة إلى أكثر من 700 من بين أفقر 1000 قرية مصرية.
 
من ناحية أخرى تعاني مناطق الصعيد إهمالاً إدارياً واضحاً، لدرجة أنه يمكن القول أنه باستثناء العمليات المركزية الأساسية ذات الطابع الوطني العام؛ من قبيل التجنيد للجيش ومتابعة خطط الوزارات التي يشرف المحافظين على تنفيذها على الأرض، ودور الأمن في مواجهة أى تمرد سياسي و تسمية المناصب الإدارية العليا وكذلك إدارة العمليات السياسية الهامة كانتخابات المجالس النيابية، باستثناء العمليات المركزية من هذا النوع، يبدو وجود الدولة المركزية وممثليها خافتاً، أما الإدارة المجتمعية لهذه المناطق ومعالجة مشكلاتها اليومية، فتكاد تكون متروكة – باتفاق مع الدولة – للقبائل والعائلات الكبيرة، بما في ذلك إدارة الصدامات الأهلية؛ سواء كانت قبلية أو طائفية، ووصل الأمر إلى حد حصار بعض القبائل أو القرى أو الأقباط اقتصاديا وتهجيرهم قسراً دون رادع من الدولة.
 
البلطجية الهواة والكرو:
 

مع تراجع الاقتصاد وتزايد البطالة وخفوت دور المؤسسة الأمنية، ظهرت في مصر ظاهرة البلطجية الهواة الذين يتم استعاؤهم من آن لآخر لتنفيذ مهام مشروعة أحيانا كالتأمين والحماية أو غير مشروعة كتأديب الخصوم أو المنافسين الاقتصاديين والسياسيين في أحيان أخرى. وتدريجياً تحول جزء من هؤلاء لامتهان "البلطجة" كمهنة عادة ما تظهر أدوارها خلال المنافسات الانتخابية على وجه الخصوص، إضافةً لمهنة "الكرو" المتوارثة في الصعيد أى الأخذ بالثأر نيابة عن العائلات الضعيفة مقابل مبلغ من المال.
 
 وفي غير مواسم استدعاء هؤلاء البلطجية فإنهم عادة ما يمارسون أعمالا غير مشروعة؛ خاصة تجارة المخدرات الشعبية والأسلحة،  وعادة ما ينشر هؤلاء التهديد والعنف في مجتمعهم المباشر كطريقة للتعاطي مع مشكلاتهم الاجتماعية اليومية. ومؤخراً زادت أنواع من الأسلحة متعددة الطلقات للقتل بالجملة وصولاً لبعض أنواع المدافع التي أصبحت متاحة بسهولة أكبر مؤخراً من خلال عائلات وقبائل صعيدية ذات امتدادات اجتماعية عبر الحدود الليبية.
 
حتى 28 يناير 2011، يوم الصدام الشعبي مع المؤسسة الأمنية، ويوم 11 فبراير من نفس العام، يوم سقوط مبارك، كان الحد الأدنى من الوجود الأمنى ومن شرعية الدولة ومؤسساتها قائماً – ولو بدرجة ضعيفة - في هذه المناطق، ولكن الوضع تغير بشكل جوهري بعد هذا التاريخ، فمع تصاعد حدة الاحتقان الاجتماعي وارتفاع معدلات التجرؤ على القانون وعلى رموز الدولة ومؤسساتها، وازياد معدلات استخدام الأهالي للعنف الفردي والجماعي كوسيلة لحل المشكلات في ظل تراخي الأمن وبطء العدالة، تراجعت أدوار الدولة بشكل شبه كامل في هذه المناطق، وهو ما يظهر بجلاء في أوقات الأزمات بشكل خاص. وخلال السنوات الأخيرة زادت الصدامات الأهلية بشكل لافت للنظر، وأياً ما كان الأساس الذي يوحد بين مجموعة من الأهالي؛ سواء كان الجهة أو الدين أو العائلة أو القبيلة أو العرق (في الحالة النوبية تحديداً)، فإن الأمر المميز لهذا النوع من الصدامات أن الأفراد يسلكون فيها باعتبارهم جزءاً لا يتجزأ من الجماعة، ما يعقد من الصدام ويؤدي لتطوره واتساعه وتفاقمه ويزيد من صعوبة حله.
 
عادةً ما ترتبط المراحل الانتقالية المصحوبة بالإنفلات الأمني بارتفاع مستويات القلق والتوتر،  يذكر أنه قد وصلت  نسبة  من لا يشعرون بالأمان في استطلاع للرأي مركز بصيرة (المصري) في (8/9/2013) إلى 73%، كما سجل المصريون المركز الأول بين شعوب العالم في مستوى القلق السياسي بنسبة 47% و 26% في استطلاعين عالمين  أجرتهما مؤسسة نيلسن عن الربع الثالث والرابع  من 2013. 
 
صدام أسوان الأخير
 
ضمن هذا النمط الأخير يمكن تصنيف الصدام القبلي الذي وقع بمنطقة السيل الريفي في أسوان مؤخراً والذي راح ضحيته 29 قتيلاً إضافة لعشرات من المصابين، وإن كان كان اكتسى بملمح إجتماعي إضافي جديد يتسم بالخطورة ألا وهو الملمح العرقي، كونه صداماً لا يقوم على مجرد التنابذ القبلي المعتاد بل تعداه إلى  نوع من التنابذ العرقي من قبل قبيلة بني هلال بنوبيي قرية الدابودية باعتبارهم عرق أسود أدنى، وهو ما رد عليه النوبيين بتعيير الهلايلة بتدني أخلاقهم ووصفهم بأوصاف غير آدمية.  جاء الحدث صادماً للرأى العام المصري لعدة أسباب أهمها أنه كسر صورة أسوان الهادئة وصورة النوبيين الوديعة بثقافتهم المتسامحة؛ فعلى الرغم من أنهم لم يكونوا البادئين بالقتل إلا أن ردهم كان مبالغاً فيه لأول مرة في تاريخهم. ثمة تاريخ من العداء والاحتقار المتبادل بين الطرفين حيث يبالغ كل طرف في تأكيد عراقته وتضخيمها سواء لأصوله العربية الشريفة (الهلالية) أو لعراقة حضارته التي تصل لزمن الفراعنة (النوبيين)، كما ينظر كل طرف باستعلاء تجاه الآخر ويضعه في مرتبة أدنى. كما يلاحظ أن كلا الطرفين يعيش مظلومية تاريخية من نوعٍ ما؛ الهلالية لسوء أوضاعهم التاريخية والاقتصادية مقارنة بعائلات وقبائل أخرى رغم اشتراكهم معهم في الأصل العربي الشريف، والنوبيين لما وقع عليهم من ظلم تاريخي منذ التهجير الأول مع إنشاء خزان أسوان وحتى التهجير الأخير مع إنشاء السد العالي، ونظرا لصعوبة توجيه الغضب تجاه تلك الأطراف القوية التي يعتبرونها ظالمة لهما تاريخياً، فإن طاقة الغضب والعنف تتخذ مسارات بديلة نحو " آخر بديل ".
 
منهج متكرر في التعامل مع الأزمات  

عادة ما يتسم التعامل الرسمي مع مثل هذه الأزمات بسياسة رد الفعل، حيث يتم إرجاع الصدامات المتكررة للأهالي وطباعهم وعاداتهم، دون تفهم لمسؤولية الدولة وسياساتها عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المزرية التي تؤدي إلى تكريس منظومة القيم القبلية. ثمة تركيز رسمي على الصراع السياسي مع الإرهاب ومع الإخوان وجبهتهم منذ 30 يونيو 2013، مع إغفال لخطورة الواقع الاجتماعي المحلي المأزوم والقابل للتفجر في أى لحظة الذي تشكل في هذه المناطق المهملة والتي يتعرض أهلها لضغوط اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة، ودون إدراك لوصول هذه الصدامات الاجتماعية – مع حدتها وكثافة تكرارها – لمستوى من الخطورة ذات الطابع الاستراتيجي، إذ يتداخل فيها الاجتماعي بالسياسي وتتحول بسرعة من مجرد خلاف يومي عادي إلى صدام جماعي محلي إلى تظاهرات غاضبة في العاصمة وعواصم العديد من المحافظات، ناهيك عن تصاعد قناعة لدى عموم المصريين بانهيار هيبة الدولة نتيجة لظهورها بمظهر العاجز عن إدارة مثل هذه الصدامات المتكررة، إضافةً لغياب أى توجه سياسي واضح لوضع استراتيجية متوسطة المدى لإعادة صياغة الأوضاع الهيكلية المولدة لهذا العنف القبلي والطائفي والعنصري المتكرر، ضمن رؤية قادرة على استيعاب التعدد في إطار الوحدة الوطنية. يشمل هذا الغياب، إضافة للدولة، برامج الأحزاب كافة ومرشحي رئاسة الجمهورية التي لم يرد فيها أى ذكر لهذه المعضلة الأساسية المهددة لمستقبل مصر الاجتماعي والسياسي.
 
دلالات جديدة وخطيرة

1. نظرية المؤامرة لم تعد مقبولة

على العكس من المصادر الرسمية التي سارعت – وعلى أعلى المستويات – بالتأكيد على أن حادث أسوان الأخير هو فتنة سياسية دبرها الإخوان، فإن معظم الأهالي أنكروا هذا التفسير، بل إن هذه المسارعة بتسييس القضية أدت إلى تفاقم مشاعر الاستياء تجاه المؤسسات الرسمية بشكل أعلى مقارنة بصدامات سابقة. والملاحظ أن لجوء المؤسسات الرسمية للبحث عن طرف ثالث وتحميله مسؤولية الصدامات القبلية أو الطائفية هو آلية ثابتة ومتكررة في كل الصدامات الأهلية.

2. اتجاه الغضب يتحول إلى السياستين الأمنية والإعلامية
 

تكشف متابعة مجريات الأحداث في الأزمة عن تحول الأهالي بسرعة وخلال ساعات قليلة – خاصة النوبيين – من توجيه اللوم والاتهام للطرف الآخر إلى توجيه الغصب وتركيز اللوم على الأمن وتحميله المسؤولية بسبب عدم تدخله من بداية الأحداث، كما عبروا عن ضيقهم من غياب الأمن تماما في قراهم، وتركيزه فقط على توفير الأمن للفنادق والمطاعم والمرافق السياحية، إضافة للأمن السياسي. كما وجهوا لومهم للإعلام الذي لا يحكمه سوى الإثارة والرغبة في تحقيق السبق ولو بالتكرار غير المسؤول لعرض صور جثث القتلى بالجملة ملقاة فوق بعضها في الشوارع وعلى عربات الكارو والحديث المكثف عن التمثيل بالجثث والاعتداء على النساء، وهو ما أشعل غضب الطرفين من جديد وأسهم في في توسيع دائرة العنف دون تدخل من الأمن. وتكشف متابعة ردود الأفعال الإنفعالية الحادة وغير المسبوقة للأهالي على القنوات التليفزيونية المحلية عن مؤشر يمكن تعميمه على وصول غضب المصريين إلى درجة يصبح معها الاستمرار في استراتيجية عدم التدخل المني في الازمات غير السياسية مصدر خطورة سياسية كبيرة، وهو ما يستدعي سرعة إعادة النظر في أولوياتها، كما إن تصاعد الأمور إلى هذا المستوى قد يحفز على الإسراع بتنشيط أدوار المؤسسات غير الأمنية وتفعيلها في مواجهة الإرهاب والصدامات الأهلية معاً، وهما التحديان اللذان يكاد الأمن أن يتحمل المسؤولية المباشرة عن مواجتهما وحده الآن.

3نمط الاستقطاب القبلي المسيس
 

على الرغم من أن معظم وقائع الصدامات التي تصاعدت منذ فض اعتصامي رابعة والنهضة في مصر كان معظمها بين الأمن والتظاهرات المؤيدة للإخوان أو ضد من يستهدفون قوات الأمن أو الجيش، إلا أن بعض الباحثين لاحظوا أن هذه الأحداث أخذت  طابعاً "جهوياً أو عشائرياً" في بعض الأحيان ، حيث عادةً ما يصف أهالي الطرف الأول أهالي الطرف الثاني بأنهم مروجو مخدرات ومتاجرون في السلاح وبلطجية وأنهم يتم استغلالهم في الصراع السياسي بطريقة أو بأخرى. ينطبق ذلك على وصف أهالي بلدة كرداسة ذات الكثافة الإخوانية مثلاً في وصفهم لأهالي  منطقة أبورواش المجاورة غرب الجيزة، حيث يتهمونهم بالعمل كمخبرين للأمن وداعمين للحزب الوطنى قبل حله. كما ينطبق – بشكل عكسي – على  نوبييى قرية الدابودية الذين يتهمون بعض فروع قبائل الهلالية بالمنطقة بتوفير الحماية المسلحة لتظاهرات الإخوان، وبالتالي تنشأ حالة من القطيعة الاجتماعية بين الطرفين، تتضمن عدم المصاهرة وعدم التجارة معهم. وعادةً ما تستند هذه القطيعة وتلك الحالة من احتقار الآخر لتاريخ من الخلاف والثأر التاريخي الذي يتجدد لمجرد ظهور مشكلة، خاصة في لحظات اشتداد التنافس الاقتصادي بين الطرفين بسبب الندرة من ناحية وبسبب متغيرات طارئة كتدهور النشاط السياحي من ناحية أخرى.
 
وتقدم حالتا "كرداسة" و"أسوان" نموذجاً دالا للمقارنة بين سلوك الأمن في حالة تتعلق بالأمن السياسي، حيث لم يتوانى عن اقتحام الأولى وفرض الأمن فيها بالقوة بعد مذبحة بشعة لضباط وجنود قسم الشرطة اتهم فيها عدد من الإسلاميين الموالين للإخوان، وأخرى تتعلق بالأمن الجنائي العام حيث أحجم عن التدخل إلا  بعد انتهاء الصدام لجمع الأدلة والقبض على المشتبه فيهم وتقديمهم لجهات التحقيق.

4. الصاع صاعين: الأقليات ترد بقوة 


لم يدخل النوبيون في صدام قبلي بهذه الدرجة من الحدة من قبل، وعلى الرغم من أنهم لم يكونوا البادئين بالقتل، إلا أن ردهم كان مبالغا فيه من حيث عدد القتلى من الطرف الآخر. سبق أن انتقل الغضب القبطي بسرعة من قرية الماريناب - بأسوان أيضاً –  إلى ساحة مبني التليفزيون "ماسبيرو" في العاصمة قبل عامين اعتراضا على قيام مسلمين بهدم كنيسة قيل أنها غير مرخصة وتصريحات لمحافظ أسوان اعتبرت مسيئة بحق الأقباط، حيث تحولت التظاهرات إلى مواجهات مع قوات الشرطة العسكرية والأمن المركزي أفضت إلى مقتل بين 24 إلى 35 شخصًا أغلبهم من الأقباط. كذلك انتقل الغضب النوبي لأول مرة في الأحداث الأخيرة من أسوان  للعديد من عواصم المحافظات في صورة تظاهرات نوبية غاضبة. الأهم أن الواقعة شهدت صخباً نوبيا عالياً تصاعد لحد اتهام الدولة بالتراخي المتعمد عن حمايتهم ولدرجة التهديد بتدويل القضية النوبية والمطالبة بالانفصال – وهو موقف متطرف واستثنائي ترفضه الغالبية من النوبيين في مصر. ولكن الملفت للنظر أن الأعراف الاجتماعية للنوبيين تكرس هذا المنحى السياسي الخطير، وهو ما لا يدركه الكثير من بسطائهم على الأرجح، ومن ذلك التحريم الاجتماعي لزواج النوبية من غير نوبي حفاظاً على نقاء العرق والعصب، ومن ذلك أيضا – وهو الأهم - المطالبة بالعودة لأقرب مكان للنوبة القديمة ( على بحيرة ناصر)، وهو اتجاه مخالف لمبدأ التداخل والتعايش بين كافة مكونات الأمة المصرية على كامل تراب الوطن.
 
5- لجان الصلح.. مصداقية متغيرة
 
عادة ما كانت الصور التي تتصدر واجهة جلسات ومؤتمرات الصلح بين العائلات والقبائل تتضمن قيادات أمنية كبيرة في المحافظة إضافة لكبار وعواقل العائلات والقبائل. وخلال فترة حكم الإخوان، سعى التيار الإسلامي – خاصة السلفي – لزرع الصلح الشرعي في بعض مناطق الصعيد كبديل للصلح العرفي ، في محاولة لتكرار المحاولة التي نجحت في بعض مناطق سيناء، ولكن المحاولة لم تنجح في الصعيد نظراً لرسوخ الصلح العرفي فيه. تغيرت الصورة بعد 25 يناير 2011 حين نشبت عدة صدامات أهلية اتخذت الشكل الطائفي؛ كان أشهرها ماحدث في قرية أطفيح جنوب الجيزة، وحى امبابة الشعبي غرب الجيزة، ومناطق شعبية  بالمقطم ومنشية ناصر شرق القاهرة، وكانت الصور الرئيسية التي تصدرت لجان الصلح تتضمن عادة أحد كبار قادة المجلس العسكري ( ممثلاً لإدارة الدولة آنذاك ) وإلى جواره الداعية الإسلامي الشهير محمد حسان ممثلاً للتيار السلفي، وهما الطرفان اللذان كانا يحظيان حتى هذا الوقت بشعبية أسهمت في تهدئة تلك الصدامات. في المقابل استأنفت الاشتباكات بمجرد مغادرة رئيس الوزراء في صدام أسوان الأخير، كما لوحظ أن الشرطة تواجه مخاطر كبيرة تجعلها تحجم عن النزول للشارع في هذه الظروف، في مقابل حالة من التقبل بل الترحاب الشعبي بنزول قوات الجيش، إلا أن الأخيرة ترددت أيضاً في واقعة أسوان الأخيرة في مؤشر واضح على التخوف من استغلال بعض الأهالي من أنصار الإخوان المسلمين للموقف، وهو ما يعني أن "الحالة الإخوانية" أصبحت تمارس تأثيراً سلبياً على سرعة استعادة الأمن بعد الصدامات الأهلية ( غير السياسية ) ولو بطريق غير مباشر. كما لوحظ اختفاء الطلب الشعبي السابق على الرموز الدينية السلفية، في مقابل توافق كل من له علاقة بالأزمة على استدعاء ممثل المؤسسة الدينية الرسمية؛ شيخ الأزهر، باعتباره "الوحيد القادر على نزع فتيل الأزمة".
 
حقائق غائبة
 
أولاً: العائلات الكبيرة تهتز: انهيار المنظومة القبلية دون بديل 

خلال الصدامات الطائفية الحادة التي أعقبت 25 يناير 2011، كانت الدولة حاضرة بقوة، وكانت أصوات الرفض للحلول العرفية لا تنقطع من قبل النخبة المدنية متهمة هذا النهج بممارسة نوع من التعمية المتعمدة عن مرتكبي الجرائم الجنائية خلال الصدامات، ولكن الوضع تغير تماماً في صدام أسوان، حيث تراجعت كافة رموز الدولة واعطت الضوء الأخضر للحل العرفي – دون غيره - وتركت المجال كاملاً لكبار العائلات والقبائل ولشيخ الأزهر للتعامل مع الأزمة. هذه الأطراف التقليدية قد تنجح في تهدئة الأمور مؤقتاً ولكنها لا تستطيع أن تضمن عدم تأججها مرة أخرى في أسوان أو في محافظات العنف الأهلي الأصلية كسوهاج وأسيوط وغيرهما مستقبلاً.    
 
على خلاف ما تعتقده النخبة الرسمية – بالمعنى الواسع للكلمة – فإن التحول في طبيعة الصدامات الأهلية بين قبائل الصعيد لم يبدأ مع صدام أسوان الأخير – رغم فجوره ووحشيته -  بل إنه يسبق ذلك بحوالي عقدين من الزمان على الأقل، حين وقعت المذبحة المروعة التي راح ضحيتها 23 شخصاً من عائلة واحدة في قرية بيت علام بمحافظة سوهاج ودشنت سقوط نظام الثأر التقليدي، ف" الثأر الشريف " – إن جاز التعبير – لم يكن نوعاً من الغضب والعنف والقتل المفتوح تجاه عائلة القاتل، بل إن له نظام وتراتبية فيمن يتم أخذ بالثأر منه، كما أنه محكوم بكونه نوع من القصاص الفردى ( فرد بفرد ) وبقاعدة عدم التمثيل بجثة المقتول وأن النساء والأطفال خارج حسبة الثأر. هذا النظام وتلك القواعد والحدود التى كانت تتمتع بنوع من الشرعية الأخلاقية لدى الأهالي، كان له أكبر الأثر فى منع تحول الثأر إلى نوع من الحروب الأهلية المفتوحة بين العائلات فى الصعيد.  
 
جوهر الإشكالية إذن هو سقوط ذلك النظام الذي كان قادراً على تسيير الحد الأدنى لشؤون هذه المجتمعات وإدارة أزماتها الداخلية. ولكن "نظام الثأر التقليدي" لم ينهار وحده في حقيقة الأمر، بل ضمن منظومة قيم كاملة كانت تحميها العائلات والقبائل الكبيرة القوية بما تملكه من أرض ومن عزوة الرجال إضافة لنفوذ سياسي ناتج عن ارتباطها بمركز الدولة في العاصمة. ضمن هذا السياق، تهاوت منظومة الترابط القبلي القديمة وهيراركيتها المستقرة والملزمة – أو التي كانت كذلك – حيث كانت كلمة كبير القبيلة (البدنة) تسري على كافة العائلات التابعة، وكلمة كبير العائلة تسري على كافة الأسر التي تنتمي لها.  وكان من أكثر الوقائع دلالة على هذا الانهيار اهتزاز مكانة الكبار داخل عائلاتهم بسبب تغليبهم لرغباتهم ومصالحهم الضيقة ولو على حساب المصلحة العامة للعائلة أو القبيلة، وهو ما تجلى في إصرارهم في انتخابات مجلسي الشعب والشورى عامى 2005 و 2010 على فرض مرشح بعينه في العديد من الدوائر، حتى ولو كان غير مؤهل للموقع أو كانت فرص نجاحه محدودة، وحتى ولو كان ذلك على حساب واحدة من القيم الراسخة في الصعيد وهي قيمة تقديم الرجال، حين أقدم بعض كبار القبائل والعائلات على ترشيح بناتهم للمجالس النيابية، رغم وجود رجال راغبون في الترشح ( وصلت واحدة منهن للبرلمان ووصلت أخرى لمنصب العمدة بالفعل لأول مرة )،  وهو ما أدى إلى ظاهرة جديدة على الصعيد تمثلت في فشل القبائل والعائلات الكبيرة لأول مرة في إخضاع مراكز القوة المتعددة داخلها وانتهت بترشح أكثر من مرشح واحد من ذات العائلة. مثل ذلك كله إشارة أخرى – لم يتم التقاطها للأسف – على خطأ الاستمرار في التعويل على "الكبار" في السيطرة على نوازع التململ السياسي وعلى الصدامات الأهلية بين القبائل في الصعيد في نفس الوقت.
 
ثانياً: عائلات صاعدة: نهاية الاحتكار الاجتماعي والسياسي
 
بغض النظر عن حقيقة الأقاويل المتضاربة – وغير المثبتة حتى الآن – حول أن صدام أسوان بدأ بسبب الخلاف السياسي بين مؤيدي المشير السيسي من النوبيين ومؤيدي الإخوان من بني هلال، إلا أنه من المؤكد ان الاستقطاب السياسي قد تجلى في الصعيد بشكل واضح خلال الأعوام الأخيرة، بحيث تغير الوضع القديم حين كانت الساحة السياسية حكراً على عدد معروف من القبائل والعائلات الكبيرة المتحالفة عادة مع "حزب الحكومة". استغلت عائلات متوسطة متطلعة للصعود الاجتماعي والسياسي حالة الغياب الأمني وضعف مؤسسات الدولة ورموزها، وكذلك حالة اهتزاز التماسك الداخلي التقليدي للأسر الكبيرة، لكي تتوسع في بعض نشاطات اقتصادية مربحة، ولكن لا تقبل عليها الأسر الكبيرة، بعضها مشروع وبعضها غير مشروع، وهو ما وفر لها الفوائض التي تمت إعادة ضخها في مشروعات تجارية بدأت تنافس العائلات الكبيرة والصغيرة على حد سواء، وهو ما ولد حالة من التنافس المصحوب بالاحتقان في ظل مرحلة يشهد الاقتصاد والتجارة في تلك المجتمعات المغلقة حالة من الانكماش الطويل. ومن المعتاد في مثل هذه الظروف أن تبحث الخلافات اقتصادية المنشأ عن أسباب اجتماعية وأخلاقية لتبريرها، وفي مقدمتها ميراث الثار ومخزون الكراهية بين القبائل. وكانت فترة حكم الإخوان قد سمحت بنوع من النفاذ السريع لحركات الاسلام السياسي في محافظات الصعيد، وهو ما دعم من وجودها ونفوذها الاجتماعي. تحالفت هذه الحركات – وعلى راسها الإخوان أنفسهم - سياسياً مع العديد من الأسر المتوسطة الصاعدة، وهو ما ظهر في تشكيلات هذه الحركات ومستوياتها وشبكاتها التنظيمية، كما تجلى في وصول وجوه جديدة لمجلسى الشعب والشورى ( 2012 – 2013 ) بديلاً عن الوجوه السابقة المعتادة من العائلات الكبيرة التي كانت تنتمي للحزب الوطني المنحل.
 
توقعات مستقبلية
 
أولاً: النخبة السياسية الحاكمة مرتبكة وبلا خطة 

في هذا الصدد لا تواجه مصر مشكلة عادية يمكن تشخيص أسبابها وعلاجها بسهولة؛ بل تواجه إشكالية معقدة مركبة. قد يكون تقدم الدولة لأداء الأدوار المنوطة بها والتي تترجم سيادتها على كامل ترابها هو المسار المثالي المطلوب، ولكنه سيستغرق زمناً قد يطول أو يقصر، كما أنه لا يتطلب فقط استعادة الدولة ومؤسساتها لشرعيتها التي كانت قبل انتفاضة يناير 2011 الثورية، بل يتطلب حسم الإرادة السياسية للدولة لخيار استكمال شروط الدولة المدنية القانونية الحديثة، والتخلي عن التواطؤ مع الواقع القبلي الذي يناقض أسس هذه الدولة الحديثة، والأهم أن النخبة السياسية  تعيش اليوم تحت إلحاح فكرة أولوية مواجهة الإرهاب واستعادة الأمن وإعادة تشغيل مؤسسات الدولة إلى سابق عهدها، وبالتالي فإن الأفق السياسي لهذه النخبة لا ينطوي على قناعة بأن حل الإشكالية يقتضي إعادة النظر في الأسس التي قامت عليها العلاقة بين الدولة والمجتمع، وضرورة إصلاح كافة مؤسسات الدولة – وعلى رأسها مؤسسة العدالة؛ الأمن والقضاء.
 
ثانيا: انتخابات المجالس النيابية ستعكس التوازن القبلي الجديد
 
منذ سقوط الإخوان، تسعى العائلات الكبيرة لاستعادة تماسكها الاجتماعي ونفوذها السياسي الذي اهتز سياسياً منذ 25 يناير 2011 وتأثر بشدة اجتماعياً وسياسياً على يد العائلات المتوسطة الصاعدة خلال فترة حكم الإخوان.  ومن المرجح أن تظهر عدة أحزاب ستتشكل من أصحاب مصالح ومكانة ونفوذ تقليدي من أسماء العائلات الكبيرة التي نجت – ولو نسبياً – من وصمة الحزب الوطني ورموز فساده، إضافة إلى وجوه جديدة صاعدة من داخل العائلات الكبيرة ذاتها، إضافة لدائرة أوسع من أعضاء عائلات كبري جديدة وافدة للسياسة لأول مرة، بعد أن كسرت التطورات السياسية الاحتكار القديم لأسر بعينها في كل منطقة. كما يُتوقع حدوث مفاجآت غير متوقعة في اتجاهات التصويت في الصعيد، كترجمة لتمرد الأسر المتوسطة الصاعدة اقتصاديا واجتماعياً وكذلك الأسر الفقيرة الناقمة على الأوضاع، وهو مؤشر على منحى تصويتي جديد من نوعه في الصعيد، خاصة مع ضعف حالة التحكم السابقة التي كانت الدولة والحزب الحاكم والعائلات الكبيرة يمارسونها على عمليات التصويت.
 
ثالثاً: الصدامات القبلية ستتجدد والمرحلة الانتقالية ستطول
 
يكمن التشخيص الدقيق للإشكالية الراهنة التي تواجهها هذه المجتمعات في أنها لم تعد تلك المجتمعات المغلقة السابقة التي يمكن لمنظومة القيم القبلية أن تحكمها؛ فهذه المجتمعات تغيرت سلوكيات أفرادها وتحولت طبيعة جماعاتها القرابية الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، وفقد كبار العائلات الكبيرة سطوتهم ونفوذهم السابق فيها، حتى على أبناء القبيلة ذاتها، في وقت تمر فيه الدولة المصرية بأصعب الظروف، بحيث أنها غير جاهزة للتحول بسرعة لتصبح دولة مدنية قانونية حديثة، وبالتالي فهى لاتزال غير قادرة على ملء هذا الفراغ الإجتماعي الكبير . يفسر هذا الوضع الإشكالي ظاهرة الانفلات العنفي للأفراد والجماعات بشكل اقترب من أن يصبح الملمح الأساسي للحياة اليومية المصرية، وهو وضع يرجح المزيد من توريط الجيش في أزمات المجتمع بسبب عجز مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني عن السيطرة عليها ومنع تفاقمها، ناهيك عن حلها، وهو ما يعني على المستوى السياسي تفاقم المشكلة الأمنية في أنحاء البلاد؛ إذ أضيف لها بعد اجتماعي هيكلي إلى جانب البعد السياسي المتمثل في العنف المحترف المنظم والعنف البدائي العشوائي الغاضب، والمهم أن ذلك كله يصب في النهاية في اتجاه المزيد من التمدد للمرحلة الانتقالية، وتأخر اللحظة المستقبلية المرتقبة التي تستعيد فيها مصر الحالة الطبيعية للحكم، التي تتطلب رئيساً منتخباً – لا انتقالي مؤقت – ومجالس نيابية منتخبة بدلاً من حالة الفراغ السياسي الراهنة، وهو وضع ضروري ولازم حتى تتكون الإرادة السياسية اللازمة لإنفاذ إصلاح هيكلي عميق في بنية المؤسسات الأساسية للدولة ولطرقها القديمة في العمل، وهو ما سيعني إعادة بناء شرعية الدولة ومؤسساتها بحيث تصبح مقبولة من المجتمع، وهو الشرط اللازم لنجاحها في أداء مهامها ومد نفوذها على أطرافها بعد تلبية مطالبها المجتمعية المشروعة في كافة المجالات التنموية. والخلاصة أن المجتمع المصري مقبل – قبل ان يتحقق كل ما سبق – على مرحلة صعبة من الإنفلات المجتمعي وعدم الاستقرار، ولذلك فإن تكرار مثل هذه الصدامات القبلية والطائفية بل وتفاقمها هو الأمر المتوقع خلال الفترة القادمة التي يسابق المصريون فيها الزمن لاستعادة دولتهم وإعادة بنائها في ظروف في غاية الصعوبة.