طالعنا أمنون شاموش، الكاتب في صحيفة يديعوت ذات يوم من عام 2013 بأن “الشعوب العربية تختلف عن الشعوب الأخرى في عدة مواضيع هامة: أولا، لديها هوية قومية مزدوجة: الأولى تشمل الانتماء، العزة والتماثل مع البلاد ومع الشعب القديم الذي قبل الإسلام والعروبة، والثانية شراكة اعتزاز كجزء من الأمة العربية. في مصر مثلا، المصري يعتز ويتماثل مع الثقافة الفرعونية العتيقة والفاخرة، ولكن بقدر لا يقل عن هذا، يشعر نفسه رأس وأول في الأمة العربية. اليوم مشكوك أن يكون هناك ما يوحد الأمة العربية، المفرقة والمحطمة سياسيا. وبالتأكيد ليست الجامعة العربية، التي لا تنجح في الاتفاق في أي موضوع”.
ملاحظة الصحفي الإسرائيلي عن الهوية والقومية المزدوجة التي يجب حسبه أن تجد تعارضا بين الانتماء الوطني في حدود الدولة الوطنية أي وطنية مصرية، لبنانية، عراقية، مغربية… والانتماء القومي الأعم إلى العروبة. هذا مع التجاهل التام لدور الدين الإسلامي. ينسى الصحفي الإسرائيلي أن الإزدواجية التي يشير إليها أكثر ما تنطبق على الإسرائيلي نفسه وبشكل مضاعف، لأنه يخلط بين الدين والقومية الإسرائيلية المحدثة مع الشعب العبري القديم؛ فيجعل من يهوديته قومية تحت مسمّى دولة برزت من فكرة، واحتلت أرضا وشعبا، فأوجدت إسرائيل وجلبت إليها يهودا من مختلف الدول والقوميات. وصار يكفي أن يحمل اليهودي حقيبة سفر ليجد وطنا مزاوجا قومية تخلى عنها مع أخرى يزعمها فقط لأنه يهودي. فبرأيه الروسي أو المغربي أو الفرنسي الذي يترك بلده وقوميته ولغته ليأتي فيصبح فجأة “موحد الهوية القومية” والانتماء، يصبح إسرائيليا صافيا دون ازدواجية! فقط لكونه يهوديا ويصبح صافي الولاء، فخورا بانتمائه إلى وطنه الجديد.
وإذا سألنا أنفسنا ما الذي يشعره أنه يهودي – عبري – إسرائيلي الانتماء والهوية والقومية رغم أصوله المتضاربة؟ لماذا لا يشعر “بازدواجيته” وباسطناع ولائه؟ لماذا يشعر أنه “ينتمي” إلى هذا الوطن الإسرائيلي – اليهودي، أليست المواطنية التامة الناجزة التي توفرها له هذه الدولة بما تتضمنه من كرامة ورفاه وحقوق متكاملة؟ أليست الديمقراطية التي يتمتع بها؟ دون أن نغفل أنها ديمقراطية منقوصة أو منحازة لأنها ديمقراطية الأغلبية، فهي للمواطن الإسرائيلي لكن اليهودي فقط. ما يؤدي إلى التمييز ضد الأقلية الفلسطينية العربية التي تعيش فيها.
لكن السؤال ليس هنا، السؤال لماذا صار بإمكان الإسرائيلي أن يشمت “بالأمة العربية المفرقة والمحطمة سياسيا”؟ ولماذا صار سؤال العروبة ونعي العروبة ومعنى أن تكون عربيا أكثر ما نتداوله؟ ولماذا لم يعد العربي يشعر بالفخر بالانتماء سواء إلى دولته أو إلى عروبته؟ وما الذي يعطي الانطباع بأن العروبة اندثرت وبحاجة إلى إعادة تعريف؟
لماذا ينبذ الشباب العربي، من الجيل الجديد، عروبته كثقافة جامعة أو يعتبر أنها لا تهمه؟ ولماذا يهرب إما إلى انتمائه المذهبي الضيق، وإما إلى البحث عن انتماء إلى دولة أجنبية تقبله لاجئا أو مهاجرا؟
لماذا يطلع علينا استطلاع بيرسون مارستيلر الثالث (أبريل 2015) لرأي الشباب العربي أنه بالرغم من أن الشباب العربي يؤمن بأن لغته العربية هي إحدى الركائز الأساسية لهويته القومية، يعتقد الكثير منهم أنها بدأت تفقد قيمتها وأنهم يستخدمون الإنكليزية أكثر منها في محادثاتهم اليومية؟
هذا وأكثر ما يشكو منه الشبان العرب حسب الاستطلاعات هو “الافتقار إلى الديمقراطية” ويجدون أنها أبرز العقبات التي تواجه المنطقة. ولقد تراجعت ثقة الشباب بقدرة أحداث “الربيع العربي” على تحقيق تغيير إيجابي في المنطقة. ففي استطلاع عام 2015، أكد 38 بالمئة فقط من المشاركين أن العالم العربي بات أفضل حالا بعد أحداث “الربيع العربي”، مقارنة بـ 70 بالمئة في العام 2013، و72 بالمئة في عام 2012. هذا و”العيش في بلد ديمقراطي” كان الرغبة الأبرز لدى 92 بالمئة من الشباب العربي المشمولين باستطلاع عام 2011.
يبدو أن اليأس يتسرب إلى نفوسهم وفقدوا الثقة بتحسن الأحوال. علما أن ما حدث عام 2011 وتتابع اندلاع الثورات بعد إحراق محمد البوعزيزي نفسه هو دليل، في حد ذاته، على وجود روابط عميقة تتجسد في هذا الانتماء إلى الثقافة العربية أو منظومة ما حضارية عربية واحدة. إذ ما الذي منع شباب إيران من استكمال ثورتهم الخضراء المجهضة والمقموعة أسوة بالشباب العربي؟
يأس هؤلاء الشباب يتعمق بسبب العنف والتفكك والأحداث الجارية والصراع المذهبي المنفلت. ويتأكد لديهم أن الدولة العربية التي ينتمون إليها لم ولن تلبي أيا من طموحاتهم وتطلعاتهم سواء على المستوى الفردي أو المستوى القومي، فكيف عليهم أن ينظروا إذن إلى أنفسهم وإلى عروبتهم، أليست العروبة مرادفا عندهم للتأخر والعنف والتعصب والتمذهب وانعدام الشفافية والمسؤولية وضعف الإنتاجية وانعدام الحريات؟
ابتعدت العروبة تماما عن الفكرة التأسيسية التي ارتبطت بها في بداياتها والتي حملت المفاهيم والأفكار الثقافية والإنسانية الكونية، وعن مفاهيم النخبة في فترة الاستعمار التي حلمت بتكوين دولة سيدة مستقلة، فتحولت إلى حركات شعبوية جمعت بين العداء للاستعمار وبين مناهضة النخب والطبقات الارستقراطية الحاكمة التي بدت وكأنها الحليفة الأساسية لهذا الاستعمار. ومن هنا كانت الحركة القومية العربية منذ بداياتها حركة انقلابية تراهن على التعبئة الشعبوية كبديل عن النخب التي كانت مسيطرة على الدولة.
شكلت العروبة وتحرير فلسطين على المستوى السياسي الغطاء لهذه الحركات لممارسة الاستبداد والدكتاتورية والتبعية والتسلط والفساد وسيطرة المنطق الميليشيوي والصراعات الدموية، بشكل مناقض تماما لمنطق المؤسسات الديمقراطية التي تعتمد المساءلة والمحاسبة والشفافية وتحترم حقوق الإنسان؟
فكان أن ارتبطت العروبة بالهزائم المتسلسلة منذ انفراط عقد الوحدة السورية – المصرية، إلى حرب اليمن، فهزيمة 1967، إلى الحرب الأهلية اللبنانية إلى الاحتلال الأخوي عام 1976 والاحتلال الإسرائيلي عام 1982، إلى اتفاقية كامب دافيد وانكفاء مصر عربيا، ثم مغامرات صدام حسين من حربه مع إيران إلى احتلاله الكويت الذي أدى إلى تدمير العراق البطيء قبل احتلاله أميركيا. أما تجارب الإسلام السياسي التقليدي في الدول التي طبق فيها فلم يقدم نموذجا أفضل ولم يؤد إلى دول عدل وتقدم أو مساواة وكرامة. أما الإسلام السياسي في تجاربه الأخيرة، منذ إيران وحتى الإخوان المسلمين، فقد أدّى إلى تصدّع المجتمعات وانفجارها من الداخل وتفتيتها وإحياء الصراعات العشائرية والقبلية والمذهبية.
إذن ليست العروبة هي المشكلة، ليس توصيفها أو تعريفها سواء أكانت شوفينية أو ثقافية أو متعددة؛ نحن عرب وانتماؤنا عربي ثقافيا وحضاريا، ولكن الأجيال الجديدة تريد أن تنتمي أيضا إلى العالم الواسع المفتوح المعولم، وتريد أن تفخر بانتمائها إلى دولها وإلى عروبتها وتريد حرية وكرامة محفوظة ومواطنة ناجزة. وهذا هو التحدي القائم أمام الدول والمجتمعات العربية.
من هنا كانت ضرورة العمل على إرساء دول تحقق الديمقراطية والمواطنة واحترام حقوق الإنسان. فلكي تستعيد العروبة أحقيتها، ينبغي أن تحمل قيم الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة التامة الأخلاقية والقانونية.
ولكي نأمل في عروبة للمستقبل تصلح لأن تكون أداة انبعاث جديد يمكنها استقطاب الأجيال الجديدة وتلبي لها طموحاتها، ينبغي أن تبرهن عن استحقاقها عبر بناء بلدان مدنية متطورة وقادرة على احترام مواطنيها وكرامتهم وحرياتهم الفردية وحرية التعبير والمعتقد وعلى تلبية حاجاتهم كافة. عندها فقط يمكن أن تتمكن الدول العربية من مجاراة العالم في تحوله إلى كيانات كبيرة عبر وحدتها المنشودة منذ عقود بين دول ديمقراطية حقيقة.
كاتبة لبنانية |