حين ظهرت دعوة فيسبوكيّة إلى الانشقاق عن الطوائف، علّق البعض بحسن نيّة والبعض الآخر بسوئها، معلنين أنّ طالب الانشقاق "فاجأنا" لأنّنا ظننّاه منشقّاً من قبل، أو معلنين اكتشاف "حقيقة" هذا المنشقّ بوصفه وثيق الصلة بطائفته، وإلاّ فما معنى أن ينشقّ عنها الآن.
والحال أنّ هذا الحكم، على تنويعاته، يخلط بين البُعد النفسيّ والثقافيّ للانشقاق، وهو طبعاً حاصل ومتحقّق في المنشقّين، وبين البُعد المؤسّسيّ حيث أنّ انشقاق الفرد عن الطائفة لا يعني بالضرورة أنّ الطائفة منشقّة عن الفرد. ذاك أنّ الأخيرة، وكما نعلم جميعاً، تتحكّم بنا، منشقّين وغير منشقّين، "من المهد إلى اللحد"، بحسب التعبير الذائع الصيت عندنا. فنحن نولد ونتزوّج ونطلّق ونورّث ونموت وفقاً لما ترتئيه الطائفة وقوانينها.
وربّما آن الأوان، خصوصاً مع هذا المناخ "الحراكيّ"، للشروع في حملة واسعة، تجدّد على نطاق أكبر حملات سابقة أكثر جزئيّة كانت تعترض على هذا الوجه أو ذاك من عمل الطائفيّة.
وعبر نشاط من هذا الصنف يسع المنشقّين الجهر بأنّهم يرفضون أن تتحكّم بهم طوائفهم وأن تحرمهم حقّ تقرير مصائرهم الفرديّة. فهم قد يحبّون الثقافات الفرعيّة لطوائفهم، طقوساً وصلوات وموسيقى وميثولوجيا، وقد يجدون فيها ما يغنيهم ويكثّر أبعادهم، إلاّ أنّهم، حكماً وحصراً، عازمون على كفّ سلطة الطائفة عليهم.
وعملٌ كهذا، سلميّ ومدنيّ بالتعريف، أقلّ كثيراً من الدعوة غير الناضجة لإسقاط النظام الطائفيّ، إلاّ أنّه قد يتيح تأسيس مرجعيّة مؤسّسيّة أخرى إلى جانب مرجعيّات الطوائف، يحتكم إليها المنشقّون عن طوائفهم، بقدر ما تكون مقدّمة للمطالبة بتمثيل غير طائفيّ يجاور التمثيل الطائفيّ الذي، وللأسف، يصعب الطعن بقوّته وتمثيليّته الفائضة.
فأيّ مدخل إلى السياسة من موقع تقدّميّ في لبنان يبقى مدخلاً وهميّاً ومجّانيّاً ما لم يواجه المسألة الطائفيّة وامتدادها الأخطبوطيّ في حياتنا. لكنْ أيضاً وبدرجة أكبر من الصحّة، غير المقبول في المنشقّ عن طائفته أن يحتلّ موقعاً نيابيّاً أو وزاريّاً بوصفه ممثّلاً لتلك الطائفة. فسلوك كهذا إنّما يرقى إلى تناقض فاقع، إن لم يكن انتهازيّة متشاطرة.
وما دمنا نتحدّث عن الانتهازيّة والانشقاق، فقد لاحظ الصديق والزميل ياسين الحاج صالح، من موقع وتجربة مغايرين نسبيّاً، عدداً من النقاط التي تثيرها المسألة، أسمح لنفسي بأن أختم بواحدة منها:
فـ "في سوريا ولبنان، وفي العراق على الأرجح، يمكن لأي كان أن يستحضر أمثلة مخيبة عن شيوعيين وعلمانيين مجاهرين، ينحازون في "ساعة الحقيقة" إلى جماعاتهم الأهلية، هاجرين انحيازاتهم الفكرية والسياسية المكتسبة، أو، أسوأ، محافظين عليها ومسخّرين إياها في خدمة الأهلي".
وهذا ما على الانشقاق أن يواجهه. |