ما زالت الجهود والمبادرات الإصلاحية التي انطلقت في القرن التاسع عشر في العالم الإسلامي ملهمة للإصلاح والفكر الإصلاحي، ويجري بحثها واستعادتها على نطاق واسع في مجالات الفكر والبحث والعمل العام، وهي بالإجمال تستوعب التقدم الغربي الذي شكل صدمة كبرى لعالم العرب والمسلمين، ويشمل ذلك المعادين والرافضين للغرب، فهم في واقع الحال يستخدمون أدوات الغرب وأفكاره.
ومنذ مئتي عام والعرب والمسلمون يسألون أنفسهم لماذا تقدموا وتأخرنا؟ ولكننا اليوم نواجه سؤالاً لعله أكثر أهمية وإلحاحاً: كيف آلت المبادرات والمشروعات الإصلاحية والتنويرية بدءاً برفاعة الطهطاوي في أوائل القرن التاسع عشر ومروراً بجمال الدين الأفغاني وخير الدين التونسي ومحمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي ورشيد رضا ومحمد بلحسن بلحجوي والفضل بن عاشور ولطفي السيد وسلامة موسى وطه حسين وعلي عبدالرازق... إلى جماعات وأفكار للكراهية والتطرف يقودها أبو بكر البغدادي وأبو مصعب الزرقاوي؟ وكيف تحولت برامج التحديث وبناء مؤسسات الدولة التي بدأت بمصر (محمد علي) عام 1805 ثم شملت جميع الدول العربية إلى سلسلة من الهزائم المهينة وأنظمة حكم استبدادية وعسكرية، فما قيل عن مآل رفاعة الطهطاوي إلى أبو بكر البغدادي يقال عن مآلات المؤسسين وقادة التحرر في الدول إلى معمر القذافي، وصدام حسين، وحافظ الأسد، وجمال عبدالناصر وجعفر نميري، وعلي عبدالله صالح. كما أدت برامج اقتباس التنمية الحديثة إلى فقر وفساد واعتماد على المساعدات الخارجية. وكما يقول برنارد لويس: «لم تساعد الجيوش ولا المدارس والجامعات والمصانع والبرلمانات دول الشرق ومجتمعاتها، ولا أوقفت الفجوة بين العالم الإسلامي وبين الغرب، وكل ما عملته أنها ساعدت بعض النخب».
ولكن بينما نحن متوقفون (تقريباً) عند صدمة لحظة غزو نابليون لمصر في 1798 حدثت في عالم «الغزاة» تحولات كبرى وجذرية تفوق في أهميتها وتأثيرها الثورة الصناعية، وتحتاج إلى أسئلة وصدمات كبرى جديدة. فالعالم يعيد تشكيل نفسه وفق موارد وتقنيات وأفكار وقيم جديدة ومختلفة تعصف بكل ما لدينا وما نحسبه إنجازاً، الدول والمؤسسات والقيم والهويات والطبقات والعلاقات كما الموارد والأسواق! فالدولة الحديثة برغم قصر تجربتها في عالم العرب تواجه تحدياً حقيقياً يهدد مصيرها واستمرار سيادتها وطبيعتها ووظائفها، ويمتد ذلك إلى المدارس والجامعات والمهن والأعمال، وربما كان من أسباب نجاح وامتداد الجماعات الأصولية والمتطرفة أنها تمنح إجابة ما في ظل الشعور بالضياع، وشعوراً جديداً بالهوية والانتماء بعدما فشلت الأنظمة السياسية في تحقيق حياة الرفاه وحياة أفضل لمواطنيها، كما فشلت في بناء هوية ورواية تجمع الأمم والأفراد حول فكرة جامعة، ثم وإمعاناً في الفشل والهروب فقد أدارت ردة مخيفة إلى الروابط القرابية والدينية وحولت بلادها إلى قبائل وطوائف تائهة.
وقد أضافت العولمة وتقنيات الاتصال فرصاً وتحديات جديدة حيث بدأت الدول تتخلى بسرعة عن كثير من وظائفها وسيادتها لمصلحة الشركات والمجتمع الأهلي أو للقوى والمنظمات الخارجية كالأمم المتحدة، وحلف الأطلسي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية أو للشركات العالمية الكبرى التي تحولت بسرعة فائقة إلى دول وامبراطوريات عملاقة.
يرى جون اسبوزيتو، الأستاذ بجامعة جورجتاون، أن مشروعات ووعود النخب السياسية بالتنمية وحياة أفضل لهم تتحقق، وارتبط هذا الفشل بالعلمانية، وكان المشهد الذي آلت إليه الدول والمجتمعات يدعو إلى ردود فعل عكسية وغاضبة وبحث عن وسائل وأطر أخرى للإصلاح غير تلك التي سادت طوال هذا القرن، حيث تكونت مجتمعات تستفيد فيها أقلية ضئيلة عدداً من كل مزايا الحضارة الحديثة، وترزح الغالبية في بؤس وفقر، وكان هذا الغنى الفاحش والفقر المدقع على درجة من التجاور والاحتكاك، تؤدي إلى المواجهة المستمرة.
ويقدم ممثلو الحركات الدينية أنفسهم على أنهم سيحققون مجتمعاً أكثر أصالة وعدالة اجتماعية، ويدافعون عن الفقراء والمضطهدين، وقد جذبت هذه الحركات مهنيين ومثقفين وأساتذة وعلماء تخرجوا من أفضل الجامعات وأهمها في بلادهم وفي أوروبا وأميركا، كما تستخدم بفاعلية التقنية الحديثة ووسائلها الإعلامية في التأثير والاتصال على نحو يبشر بمهارة قيادية وتقنية تؤهلها لقيادة المجتمعات والدول. وبالطبع فإنه لا يكفي القول إن الفقر والبطالة والتهميش هي الأسباب المحركة للبعث الديني، فالمجتمعات تبحث بحرقة عن أصالتها وهويتها، وسيظل الدين والثقافة لهما وزنهما في التنمية.
* كاتب أردني |