ثمة نقاش متواتر حول أسباب جاذبية مجموعات جهادية لمقاتلين عرب وآخرين أجانب يتحدّرون من بلدان غربية. وتَركّز اهتمام واسع أيضاً على الأعداد المتزايدة من التونسيين والمغاربة الذين ينضمون إلى هذه المجموعات في سوريا والعراق، بيد أن نزراً يسيراً من الاهتمام مُحض لحقيقة أن عدد الجزائريين الذين يقاتلون في الخارج يُعتبر صغيراً للغاية قياساً بزملائهم التونسيين والمغاربة.
يمكن تفسير أسباب العدد المحدود من المقاتلين الآتين من الجزائر (وبشكل أعم نفوذهم الضئيل في البلاد) بمروحة من العوامل، منها:
العشرية السوداء يبدو أن سبباً رئيساً للجاذبية الخفيضة للحركة الجهادوية بين الجزائريين هو تجربة الحرب الأهلية في البلاد التي اندلعت طوال عقد التسعينات. هذه الحقبة، التي تُعرف بالعشرية السوداء والتي قُتِل خلالها زهاء 150 ألف شخص واختفى 7 آلاف آخرون، خلقت جرحاً عميقاً وغائراً لاتزال معالمه تتجلى بوضوح في توق الجزائريين إلى الأمن والاستقرار. وهو أمر تُغذي مشاعره السلطات لتبربر مواقفها الأمنية القاسية.
علاوةً على ذلك، تشكّل الصور المتدفقة من سوريا والعراق رسالة تذكير مؤلمة للجزائريين بأحداث العشرية السوداء التي "لا أحد يريد أن يعيشها ثانية"، كما قال جزائري في عقده الثالث لكاتبة هذه السطور. ويبدو واضحاً أن رغبة الجزائريين في الأمن أقوى من أي وقت مضى. وهذا ماعبّر عنه محامٍ في الخامسة والثلاثين بقوله: "الجزائريون نالوا قسطهم من الأهوال، واليوم باتوا مُلقّحين ضد الإسلاموية. إنهم لايريدونها البتة. إنهم مصدومون ومجروحون وخائبو الرجاء".
حتى أولئك اليافعين، الذين لم يعيشوا الحرب الأهلية، ترسبت لديهم صور الحرب والعنف، وثمة شعور لديهم بأن الخطاب الراهن الخاص بالأمن مقبول بسبب التهديد الإرهابي القائم.
الدعوة السلفية ثمة سبب آخر للجاذبية المحدودة للجهادوية بين الجزائريين، هو صعود حركة الدعوة السلفية، التي يُطلق عليها البعض اسم السلفية العلمية، كبديل من كلٍّ من الجهادية والعمل السياسي، والاستلحاق بالدولة.
تعرض الدعوة السلفية بديلاً لأولئك الجزائريين الذين يدعمون الجبهة الإسلامية للانقاذ، لكنهم أحبطوا من جراء عنف الحرب الأهلية. كما تشكّل الحركة تعويضاً لأولئك الذين فقدوا الثقة بالأحزاب الإسلامية مثل النهضة والإصلاح، اللذين شهدا انحداراً بسبب الانشقاقات والانقسامات في صفوفهما، وأيضاً لفقدانهما الاستراتيجية والقيادة. أما الحزب الإسلامي الرئيس في البلاد، حركة مجتمع السلم، فلا يُعتبر حتى جماعة إسلامية حقة، بل مجرد حزب مُستلحق للدولة، أو "حزب السلطة العالق في صراعات حزبية وتستغرقه مصالحه الخاصة"، وفق تعبير فريد، وهو سلفي شاب من أتباع الشيخ علي فركوس.
يسعى أعضاء الدعوة إلى الحصول على الإرشاد من علماء دين يُعتبرون موثوقين وسدنة المعرفة الدينية الحقيقية، وبعيدين عن الانقسامات الحزبية. والواقع أن الدعوة السلفية تدعو إلى الصمت التام حيال القضايا السياسية، وترفض النشاطات السياسية التي تعتبرها مسؤولة عن الفتنة بين المسلمين.
آليات صارمة العامل الأخير الذي يساهم في إبقاء مشاركة الجزائريين في التنظيمات الجهادية منخفضة، خصوصاً في الخارج، هو الرقابة المشدّدة التي تفرضها الأجهزة الأمنية التابعة للدولة على هذه التنظيمات.
لايعني ذلك غياب العنف الجهادي كليّاً في البلاد. إذ أن النشاط الجهادوي المحلّي متواصل، ومع ذلك، ليس مفهوم الأمن الكلّي مجرّد شعار. فقوى الأمن في حالة تأهب وتمتلك قدرات عالية. ومن خلال هذه القدرات، عزّزت الجزائر حدودها وأرسلت المزيد من القوات لمراقبة حدودها مع ليبيا ومالي والنيجر. وبحلول العام 2014، كانت الجزائر قد أغلقت حدودها كلها، ما عدا مع تونس، وحوّلتها مناطق عسكرية لايستطيع أحد دخولها من دون تصريح أمني خاص.
والأهم من ذلك أن لدى الجيش الجزائري ما ليس لدى نظيره المغربي أو التونسي، وهو التدريب المتطور للغاية والخبرة القتالية الكبيرة في مجال مكافحة الإرهاب. وزاد الجيش بالفعل مهماته وعملياته الأمنية منذ نشوب الصراع الحالي في ليبيا في العام 2014، وحقّق نجاحاً نسبيّاً في تأمين الحدود الجزائرية ضد تدفّق المقاتلين من خارج البلاد. كما أنه يعتقل بشكلٍ دوريّ مهرّبي المخدّرات والسلاح والجهاديين، ولاسيما في الجنوب والشرق.
أي مرحلة مقبلة؟ على الرغم من كل التدابير التي اتخذتها الدولة، تشكّل الآليات الأمنية الصارمة نهجاً خطيراً بسبب انتشار ثقافة الإفلات من العقاب في صفوف أعضاء الشرطة والأجهزة الأمنية، ما يتيح لهم ممارسة التعذيب وسائر انتهاكات حقوق الإنسان من دون الخضوع للمحاسبة. قد ينجم عن ذلك تطرّف الشباب، كما حدث في الجزائر في التسعينات، حين أدّى فتح مراكز الاحتجاز في الجنوب إلى سعي آلاف الشباب للانتقام والثأر. ينبغي على الجزائر أن تفكّر في إصلاح قطاع الأمن، ما قد يشكّل خطوةً أولى في مسار بناء علاقات مدنية - عسكرية أكثر توازنا.
إضافةً إلى ذلك، لا تزال الجزائر تعاني من مشاكل اقتصادية واجتماعية وسياسية، والشباب هم بلا شك أولى ضحايا هذه المشكلات. تعتمد الجزائر بشكلٍ كبير على قطاع النفط والغاز، الذي يشكّل 60 في المئة من عائدات الموازنة في البلاد، و97 في المئة من صادراتها، و30 في المئة من إجمالي الناتج المحلّي. بعبارة أخرى، لا يزال اقتصاد الجزائر اقتصاداً ريعيّا.
على المستوى السياسي، ثمة نقص، لا بل غياب كامل، للتجديد الجيلي (من أجيال) في الجزائر، ما سمح ببقاء المسؤولين أنفسهم في السلطة منذ مرحلة ما قبل استقلال البلاد في العام 1962. وقد حالت سلطويتهم واستراتيجياتهم الاستلحاقية دون ظهور معارضة حقيقة، كما أدّت إلى نشوء مجتمع محلّي يعاني من فقدان المعايير.
إذا ما أُريدَ إبقاء عدد الجزائريين الذين ينضمون إلى الحركات الجهادية في الخارج منخفضاً نسبيّاً، ولمنع الشباب الساخطين من الانضمام إلى المجموعات الجهادية المحلية، ينبغي على النظام أن يعالج القضايا الاجتماعية - الاقتصادية والسياسية التي تؤثّر على السكان، ولا سيما على الشباب في البلاد.
سوف تُمحى ذكرى الحرب الأهلية تدريجا، وستصبح السيطرة على الحدود أكثر صعوبةً بعد، وقد لا تعود الدعوة السلفية قادرة على الاستجابة لغضب مناصريها وإحباطهم. حينئذٍ، ستزداد التظلّمات الاجتماعية - السياسية والاقتصادية التي لم تتم معالجتها، كما سيزداد إحباط الشباب وشعورهم بالحُقرة. وقد يعزّز هذا الأمر دعم الشباب للمجموعات المتطرفة الداخلية أو الخارجية. التي تمنحهم صوتاً وعلّة وجود. وستشهد البلاد مرة أخرى دوامة من العنف.
(أقسام من دراسة طويلة)
مركز كارنيغي للشرق الأوسط |