نكتبُ الآن وهنا، لأنّنا قلقون على مآل الحراك المدني الذي كان لمُطلقيه فضل إخراج أصوات اللبنانيين الحانقة المكتومة، ورجّ عقول المتذبذبين ومشاعرهم، وإعادة الحياة للموات السياسي، وإحياء الآمال الشعبيّة المترنّحة. ولأنّنا قلقون على قوام رؤيته المشتركة، المفترضة، واستراتيجياته وآلياته المشتركة، المفترضة، فنحن حيال مشروع واحد مفترض، وُلد من ظروف تاريخية اجتماعية سياسية واحدة، وبواعث انطلاقته واحدة. وأبواب الإصلاح لا تحتاج إلى اجتهاد كبير، فيما التنوّع في الرؤى والاستراتيجيات والآليات، يُبدّد الجهود والضغوط، ويُشتّت الرسائل، ويُنبئ إلى حدّ ما بمخرجات هذا الحراك.
إنّ رهانات اللبنانيين التغييريين المحمومة على الحراك هي التي تدفع إلى وضعه المستمرّ تحت المجهر.
عمليّاً، كشف الحراك النقاب عن اختمار حالة شعبية ناقمة على أداء السلطة منذ أمد بعيد، وتنتظر اللحظة المناسبة لتفجير غضبها، لتنفي نفياً قاطعاً أن يكون إصلاح الحال من المحال، وأن تكون الأقدار الكونية هي التي شاءت أن تكونَ الأمور على هذه الشاكلة، وأنّ قوى غاضبة مجهولة تتربّص بالكائنات والموجودات وتُلزمها بالسّكون.
كشف الحراك النقاب عن شريحة واسعة من اللبنانيين سئمت لغةَ الجماعة ومفرداتها وتهويلاتها وهلوساتها، وأصنامها المعصومة، كما سئمت بالمقدار ذاته لغة سلطة أبطلت، متآزرة، شرف إدارة شؤون الناس والبلاد، وجوّفت مفهوم السياسة ولوّثته. كما لم يعد يُغري تلك الشريحة تحويلها إلى كائنات استراتيجية تُدمن الانتظار والترقّب والتلقّي، وتتغرغر بالعناوين والأهداف الكبرى، التي تحجب الواقع اليومي وتمنع رؤيته.
في الواقع، انتفضت عشرات الألوف من اللبنانيين ضدّ انحدار قيم الدولة والقانون والحق، وضدّ هيمنة أخلاق الميليشيا والبلطجة والتشبيح على الحكّام وأزلامهم، وعلى بعض المحكومين من باب العدوى، واستفحال الفساد الذي أدّى ويؤدّي إلى إهدار الأموال والأملاك العامّة، وإلى إثقال كاهل الشّعب بديون فلكية، يُسدّدها اللبنانيون، صاغرين، بقوّة الضرائب، والحرمان من المشاريع العامّة. وفي المقابل تُدرك شريحة واسعة من اللبنانيين المنتفضين أنّ مفهوم «حقوق الطوائف» الذي بُني عليها النظام اللبناني لم يُفضِ منذ تأسيسه سوى إلى التحكّم والاستبداد المحلّي المناطقي والوطني، وإلى تحاصص سياسي وإداري ومالي وعسكري واستخباري وثقافي وقضائي، فوقي، وحتّى بشري، إذا نظرنا إلى التقسيمات الانتخابية، وبالتالي إلى تشتيت قوى الشعب وشرذمتها، وإلى قصور في التنمية والتحديث، وإلى تشويه مفهوم العدالة، وإرساء آليات اللاعدالة والتقهقر، ما لم يُؤدِّ هذا المفهوم إلى حروب واحتكاكات وانتفاضات بائسة كاريكاتورية.
لهذه الأسباب تُطالب هذه الشريحة المنتفضة بحق اللبنانيين في الإدلاء برأيهم في كل من القوى السياسية التي تزعم إدارة شؤون لبنان، شؤونها، كي تستشعر هذه التكوينات بالمسؤولية الوطنية ولا تتهرّب من المحاسبة، وتتوقّف عن ادّعائها تمثيل «حقوق طوائفها» وعن ابتزاز طوائفها والطوائف الأخرى من أجل المحاصصة، أو من أجل مشاريع خاصّة، فئويّة، تتخطّى فيها القوانين.
إنّ أشواقَ اللبنانيين الغزيرة التي يتعذّر سردها كلّها، تُلخَّص بإرادتهم في تطبيق القانون، القانون الذي يمنع التعسّف باستخدام السلطة من أجل مصالح خاصّة والذي يُعطّل التشريعات التي تُجيِّر هي الأخرى العام من أجل الخاص، وذلك من خلال تفعيل القضاء النزيه الذي يبقى السلاح الأقوى لملاحقة الفاسدين.
هل لا يزال ديوان المحاسبة مثلاً حيّاً يُرزَق؟ هل تمّ ولو لمرّة واحدة تفعيل «قانون الإثراء غير المشروع»؟ هل تمّ إنشاء مجلس محاكمة الوزراء والرؤساء؟ وما هي الحكمة من مبدأ «الحصانة» التي يتمتّع بها النواب؟
وحين يحلم اللبنانيون بلبنان دائرة انتخابية واحدة وخارج القيد الطائفي، وبالنسبية، إنّما يُكرّرون ما جاء في دستور الطائف الذي يقول بإلغاء الطائفية السياسية وبتكبير الدوائر الانتخابية وبالنسبية.
بعد محاولتنا تقويم مضامين الحراك واقتراحنا هدفاً أوليّاً له وأسباب قلقنا عليه، نختم بالقول إنّه، لقوّته الأخلاقية، المتأتّية من مشروعيّته، أحدث ثغرةً في الجدار السياسي يتعذّر ردمها، لكنّ فوضى الاستراتيجيات العابقة بالنوايا الطيّبة، قد تُفقده زخمه، وقد تُذهب حماسة اللبنانيين المتحلّقين حوله، وتجعلهم يفكّرون أنّ عيش المجتمع المدني الواحد متعثّر، مثل عيش طوائفه، وأنّ مخرجاته غامضة، متدحرجة، غير مضمونة، بل بعيدة المنال، وأنّ المجتمع المدني ليس جاهزاً بعد لتولّي مسؤولية التغيير، بنيةً وخطاباً.
إنّ التغيير في لبنان يحتاج إلى قباطنة مهرة، يقودون باخرته في مشوارها الطويل وسط الأعاصير والأنواء بعد أن آن لليل أن ينتهي. إنّها مسؤولية تاريخية تحتاج إلى نضوج وجديّة.
* كاتبة لبنانية |