التاريخ: أيلول ١٦, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
الديموقراطية وشرعية الدولة الحديثة - حسن محمد شافعي
ارتبطت منجزات الحداثة الغربية في مجالات الحياة الثقافية والاجتماعية كافة بقدرتها على صياغة كيان اجتماعي جديد يستوعب تلك المتغيرات ويتفاعل معها ويحررها من سلطويات العصور الوسطى ضد ما يعتبر جديداً ومخالفاً لها. وقد مثلت الدولة الحديثة أهم منتجات الحداثة السياسية في الغرب نظراً لاعتبارها الكيان الاجتماعي الجديد القادر على دفع مسيرة الحداثة إلى التقدم وتمرير مشروعها وتجسيده على أرض الواقع. لذلك رأى البعض أن من دون الدولة يفقد هذا المشروع قدرته على تحقيق أغراضه. إلا أن هذه الدولة لم تكن وليدة دعوات فلاسفة التنوير الذين دشنوا العقد الاجتماعي الجديد فحسب، فقد صاحبتها تفاعلات عدة في بنية المجتمعات الغربية استطاعت تشكيل الدولة على نمطها الجديد.

وصاحب تدشين الدولة الحديثة تبني النظم الرأسمالية الغربية قيم الديموقراطية على مستوى الممارسة السياسية بجانب الحريات الاقتصادية التي كانت تسعى إلى تراكم والسيطرة على الطبيعة، والتي سبقت تلك الممارسة السياسية.

وفي هذا السياق، يمكن التساؤل عن موقع الديموقراطية في أولويات الدولة الحديثة ومدى علاقتها باستدامة وجودها السياسي وحمايته مصالحها؟ ثمة إشكالية تؤطرها طبيعة الدولة الحديثة في تعاطيها مع الديموقراطية كقيمة وممارسة، وهي أن لدى الدولة الحديثة نزوعاً نحو التسلط بحكم جهازها البيروقراطي الذي يمثل عمودها الفقري، في حين أن الديموقراطية لديها نزوع عام مناقض نحو التحرر من السلطويات الاجتماعية. وهو ما جعل البعض ينظر إلى الديموقراطية كصورة سلبية تسعى إلى تفكيك الدولة.

بل يمكن القول: إن الحفاظ على منجزات الرأسمالية الاقتصادية وعلى مصالح طبقتها قد حفَّز على الذهاب نحو الديموقراطية لاعتبارات براغماتية، فلم تكن الديموقراطية في بؤرة اهتمام الحداثة الغربية، مقارنة باعتنائها بتدشين الدولة. فالديموقراطية مثَّلت إحدى دعائم الدولة من منطلق الصيرورة الاجتماعية أكثر من كونها قناعة فكرية، الأمر الذي أنتج تمايزاً بين الديموقراطية الكلاسيكية التي نظر إليها بعض فلاسفة التنوير والديموقراطيات الحديثة التي استبدلت الطبيعة البشرية بالطبيعة الكونية من حيث هي أساس العملية السياسية، والتي لم تعبر عن النزوع الوجداني للتحرر في شكل ملائم. حتى إن الثورة الفرنسية؛ أهم الثورات الغربية، والتي نادت وتأسست على مطلب الحرية، غلَّبت منطق الدولة على منطق الديموقراطية في مسارها وممارستها، سواء مع المخالفين أو المؤيدين حتى وصلت إلى إمبراطورية سلطوية على يد نابليون بونابرت. وهو ما برر خضوع الديموقراطية لمنطق الحداثة البيروقراطي وكما أنها غلّبت منطق الممارسة على منطق الفكر التحرري للفرد ذاته من كل أشكال التسلط الاجتماعي، فأصبح للديموقراطية نمط حداثي يخدم الدولة وقوامها السياسي يجعلها أقرب إلى التدابير السياسية والخيار المحقق للنفع من أن تكون فلسفة لتحرر الذات من أغلال التاريخ المتراكمة وأشكال الاضطهاد والاستغلال المادي. وهو ما دفع ماركيز إلى وصفها بـ «اللاحرية الديموقراطية»، لذلك اعتبر ماكس فيبر الرأسمالية جهازاً يمارس الإكراه وليس موقعاً للحرية بشرت الحداثة بآليتها البيروقراطية لتدني الإنسان المتعلم لمصلحة الخبير التقني. من هنا، تمثل الحرية الفردية وتقرير المصير توتراً ضخماً بين النظام الأخلاقي/ الروحاني وبين عالم المادة، أي بين أخلاق الاهتمام بالذات وأخلاق إرضاء الذات. وهكذا تغدو قيمة الحياة خارجية لا داخلية؛ تعطي أولوياتها العظمى لقيمة العمل والكفاءة والانضباط، وهي أمور غرستها الدولة الوطنية في مواطنها كطبيعة ثانية لهم. فالعمل أصبح من أجل العمل، فالتقدم الذي تزعمه الحداثة مفهوم يضاهي تراكم الثروة والسيطرة على الطبيعة، بيد أن ثمن التقدم هذا هو ما دعاه فيبر (الحرمان الروحي) وهو شعور عميق بضياع الإرساء الروحي للذات الفردية في العالم والطبيعة نتيجة غياب المقدس من الحياة.

فالدولة الحديثة هي إفراز لما يطلق عليه المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي (الكتلة التاريخية) والتي تعني ائتلافاً واسعاً من طبقات وفئات وشرائح اجتماعية وقوى وتيارات سياسية واقتصادية وثقافية عدة، من أجل قضية واحدة حتى وإن اختلفت تلك القوى مذهبياً أو اجتماعياً، إلا أنها اتفقت على ضرورة التغيير. ولكي تتمكن الكتلة التاريخية الجديدة من فرض رؤيتها على المجتمع، لا بد أن تمتلك القدرة على التعبئة والإقناع واستراتيجية مبتكرة على تجديد بنيات المجتمع. إلا أن نجاح الكتلة التاريخية في صناعة التغيير ينشئ حالة من الصراع بين القوى الاجتماعية والتيارات الفكرية التي حملت دعوة التغيير من أجل صياغة الوضع الجديد للدولة الحديثة والذي انحاز نتيجة الصراع الطبقي وتعمق الوسائل المادية إلى هيمنة الطبقة الرأسمالية على الحياة الاقتصادية، وما تبعها من مزايا سياسية على حساب الطبقات الأخرى إلى النموذج البيروقراطي العقلاني الذي رأى في الدولة وسائل عقلانية أكثر منها فكرة فلسفية. إلا أن ذاكرة الثورة الفرنسية كانت حية لدى الطبقة السياسية الجديدة بجانب ظهور النمط الاشتراكي كنموذج اجتماعي بديل أدى إلى إدراك النخبة الجديدة أن الفقر يمكن أن يسحب السلطة السياسية والتمييز الاقتصادي من تحت أقدامهم، فشرعوا في تأسيس نُظُم الرفاه الاجتماعي، ما أوجد شبكة أمان اجتماعي تتضمن مؤسسات التضامن الاجتماعي والصحة العامة والمتخصصة.

في هذا السياق، تبدو الدولة الحديثة مؤسسة على شرعية أعمق من الدعوات التنويرية التي نادت بعقد اجتماعي مدني وبإرساء قيم الديموقراطية والتي كان لها بالطبع دورها في دفع مسيرة الحداثة الغربية، إلا أنها لم تكن السند التاريخي الوحيد في ظهور الدولة الحديثة نتيجة خضوعها لآلية التنميط العقلاني البيروقراطي الذي أعطى أهمية كبرى للوسائل عن الأفكار.

* كاتب مصري