كتب «مثقف» النظام السوري: «معظم اللاجئين السوريين خارج وطنهم هم من الفئات غير القادرة على التعايش مع التعددية... وهكذا فإن خساراتهم لا تعد نزفاً ديموغرافياً»!، وذلك قبل أن تبادر صحيفة «الأقلوية الممانعة» إلى سحب مقاله من موقعها الإلكتروني والاعتذار. وسبق هذه الواقعة أن أقدمت مصورة في تلفزيون يميني مجري على ركل نازح سوري يحمل ابنه ويحاول الإفلات من عناصر الشرطة التي تحاصره. وأيضاً أقدم التلفزيون اليميني على إنهاء عقد عمل المصورة لديه.
والحال أن سحب المقال من الصحيفة اللبنانية وإنهاء عمل المصورة التلفزيونية المجرية لا يلغيان حقيقة أن فعلتي الكاتب والمصورة صادرتان عن وعي وتصميم هما وليدا ثقافة نزق وطني عنصري لطالما شاب الوعي الأقلوي، ودفعه نحو مستويات هذيانية.
وإذا كانت فعلة المصورة المجرية شأناً أوروبياً تتولى مجتمعات القارة العجوز نقاشه ومحاسبة نفسها وثقافتها عليه، فإن فعلة كاتب النظام في سورية ليست سقطة عابرة، إنما هي جزء من لغة ومن أفعال ومن أداء أنظمة ودول لا تقتصر على النظام في سورية. وقد ابتكرت لهذه اللغة مفاتيح تمكنت من حجز مكان لها في قاموس ما هو مقبول في لغتنا السياسية. فعبارة «سورية المفيدة» تنطوي ضمناً على قناعة بأن ثمة «سورية غير مفيدة». وهذه العبارة مهدت من دون شك لمقولة كاتب النظام، إذ إن وجود «سورية غير مفيدة» يعني أيضاً وجود «سوريين غير مفيدين»، وهم من باشرت آلة النظام عملية ترحيلهم على نحو منهجي.
وهنا علينا أن لا نهمل جهداً بدأ يُبذل لإنتاج رواية تتخلص فيها الأقليات من الإرث الثقافي الجماعي للمنطقة، وتنسب إلى نفسها فضائل «التعددية» في مقابل الأحادية، فيُنتج تلفزيون «المنار» مثلاً برنامجاً عن الإمام الثاني عشر، يشير فيه إلى أن والدته «رومية مسيحية»، في إشارة إلى «قابلية ثقافية» للاختلاط بالأقليات، ويهمل التلفزيون في برنامجه هذا أن والدة الإمام في هذه الرواية غير المحققة أصلاً، كانت سبية.
النقاش يجب أن يتركز هنا على مدى صحة مقولة أن ثمة ترحيلاً منهجياً يرقى لأن يُسمى ترانسفير في سورية. ذاك أن وجود «سوريين غير مفيدين» عبارة موازية للعبارة الصهيونية التي استعملت في وصف سكان الجليل عندما باشرت المنظمات الصهيونية عملية ترحيلهم وتوطين يهود أوروبيين في مدنهم وقراهم. فهم وِفقها «بدو لا يصلحون للبقاء في هذه الأرض الخصبة». وبعد ثلاثة عقود من هذه العملية ظهر في اسرائيل من يعترف بأن دولته أقدمت على ترانسفير.
وبغض النظر عن حقيقة أن عبارة كاتب النظام كشفت عن مدى إعجابه بالنجاح «غير الأخلاقي» للترانسفير الإسرائيلي، على حد تعبير المؤرخ الاسرائيلي بيني موريس، فإن ثمة وقائع تؤكد أن ثمة تمهيداً حقيقياً لعملية ترانسفير سورية أنجزت فيها مهام محددة، فيما تنتظرها خطوات لاحقة يبدو أن النظام وحلفاءه في طريقهم إلى مباشرتها. والوقائع المنجزة يُمكن بسهولة إدراجها في سياق خطة منهجية تهدف إلى تغيير ديموغرافي واضح.
المهمة هي تأمين بيئة تساعد على تحقيق «سورية المفيدة». المهمة شاقة وصعبة، لكنّ النظام وحلفاءه الإقليميين والدوليين سائرون فيها على ما يبدو. «سورية المفيدة» التي تمتد من دمشق وريفها إلى الساحل السوري مروراً بحمص وريفها، يجب أن تتخلص من «السوريين غير المفيدين»، وهؤلاء يشكلون أكثر من 60 في المئة من سكان هذه المناطق.
المهمة بدأ تنفيذها منذ سنوات. وثمة وقائع كثيرة أصبحت وراءنا في سياقها. فالطريق من دمشق إلى حمص، تم ترحيل الكتل السكانية الرئيسة منها. ومدن القصير ويبرود وأحياء حمص القديمة، جميعها صارت مناطق غير مأهولة تقريباً. مدينة الزبداني في طريقها الى الالتحاق أيضاً بسلسلة المدن السورية الخالية من السكان. ثمة أكثر من مليون لاجئ سوري في لبنان جميعهم من هذه المناطق. وإذا كان الترانسفير يحتاج لكي يتحقق إلى أكثر من ربط الوقائع بالنوايا، أي إلى إعلان واضح عن موقع السكان من مشروع الدولة المستجدة، فإن كاتب النظام كشف عن موقع هؤلاء المرحلين في ثقافة النظام. فهم «لا يخدمون التعددية»، وهم «شعب القاعدة وداعش». علماً أن النظام يملك ثقافة احتقارية لهؤلاء السكان سبقت انتفاضهم عليه، وما عبارات كاتب النظام سوى صدى مباشر لهذه الثقافة.
لكن، وعلى رغم وجود النوايا وضعف الوازع الأخلاقي، تبقى المهمة شبه مستحيلة. صمت العالم عما يجري للسوريين لا يُشبه صمته حيال ما حل بالفلسطينيين في 1948. في ذلك الوقت، قرر العالم أن ليهود أوروبا الناجين من المحرقة دولة في الشرق يجب عدم اعتراضهم في مهمة تأسيسها. أما في سورية، فالعالم مستهدف أيضاً في هذا الترانسفير، وأوروبا منقسمة حيال مصير مئات الآلاف من السوريين العالقين بين حدود دولها. والكتل السكانية التي استهدفت بقرار الترانسفير كانت أقل انسجاماً وتماسكاً من الكتل المستهدفة بالترانسفير السوري. الأعداد أيضاً كانت أقل، والمجتمعات المجاورة التي استقبلت اللاجئين الفلسطينيين في حينه لم تكن مضطربة على نحو ما هي مضطربة اليوم. وتبقى المشكلة الأكبر في وجه الترانسفير السوري والتي تتمثل بهوية المستوطنين الذين يُفترض إحلالهم في الأرض التي اقتلع سكانها. فحتى الآن لا يبدو أن ثمة تصوراً لدى النظام عن آلية نقل للسكان، وما زالت الأخبار عن توطين ايرانيين ولبنانيين وعراقيين ضعيفة وغير واقعية.
هذا كله لا يُضعف حقيقة أن السوريين يتعرضون لنوع جديد من الترانسفير، مع فارق أنه ترانسفير بعثي لا صهيوني، أي أنه يحمل من هوية أصحابه انعدام وجهة واضحة وخطة واقعية، ويبدو أن التجريب هو وسيلته في «الإنجاز». وهذا يعني ارتفاعاً في طاقته العنفية والتدميرية، وترافقه مع نزعة استئصالية.
يبقى أن دراسة مقارنة بين الترانسفيرين السوري والفلسطيني لا تساعد على استبعاد وصف ما يجري في سورية بأنه عملية ترحيل منهجية. فالعالم اعترف بأن اسرائيل أقدمت على اقتلاع سكان من أرضهم وإحلال غيرهم محلهم بعد عقود من وقوع الكارثة. والعالم اليوم يُمارس نكراناً مشابهاً. |