التاريخ: أيلول ١٢, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
مقاربة إيجابية لإشكاليات الحراك المدني المتنوع - طلال خواجة
لم يكن الحراك المدني الذي يغمر وسط العاصمة الأول من نوعه، وإن كان الأهم لجهة دلالاته، فقد سبقته تحركات متنوعة كشباب ضد النظام الطائفي وهيئات التنسيق والحراكات الطربلسية وغيرها من الحراكات خارج سياق الانقسام السياسي الإجمالي والذي وصلت توتراته المذهبية والفئوية إلى حدود الانشطار.

وإذا كانت أعداد المنخرطين في الحراك مباشرةً وتنوعهم فاقت بعض التوقعات، فإن أهميته تكمن بأنه شكل وجبة رئيسية على مائدة كل لبناني، خصوصاً أن الفضائيات شكلت بمعظمها «حملات» أضيفت إلى «طلعت ريحتكم» و»بدنا نحاسب» وغيرهما، ما ساهم بتوسيع دائرة الحراك، علماً أنه شجع بعض «الفنانين الثوريين» الذين قدموا من الغناء على أنغام القتل في مناسبات بشار الأسد إلى التنظير في ساحات الحراك الديموقراطي إلى تمجيد الجنرال اليائس والمتحفز دائماً في التظاهرة العونية.

والسؤال الذي يرتسم على شفاه الجميع، هو ما إذا كانت هذه الحملات تشكل أملاً في اختراق الانقسامات الطائفية والمذهبية والفئوية وخرقاً في الأزمة السياسية اللبنانية التي ترعى وتؤجج هذه الانقسامات منذ تكوّن النظام السياسي اللبناني وصولاً إلى دخول البلد مرحلة جديدة بعد استشهاد رفيق الحريري ونشوء تيارات سياسية جديدة تحت اسم ٨ آذار بعد تظاهرة الوفاء لسورية التي حشدت مئات الألوف، خصوصاً من الطائفة الشيعية، و١٤ آذار بعد الانتفاضة التي جذبت أكثر من ربع الشعب اللبناني إلى قلب العاصمة.

ما يدفع لهذه الاستعادة هو المفارقات والإشكاليات التي طبعت الحراك، فمن حركة جمعيات وحملات ديموقراطية وبيئية استفزها عجز الحكومة والمسؤولين عموماً عن إجراء الانتخابات وعن حل أزمة النفايات على رغم النذر المقبلة من الناعمة ومطمرها، ما جعل رائحة أم المدن العربية تحرر رائحة الفساد المرافق للنظام الطائفي والمتحول (مع نمو فئات سياسية جديدة خلال مرحلة النظام الأمني السوري اللبناني ومع نشوء دويلة حزب الله) من آفة إلى منظومة إلى ثقافة، هل نتذكر «زبال نيويورك»؟ إلى حركة واسعة التحق بها منوعات مدنية ونقابية وسياسية.

قد يختلف كثر على طبيعة الشعارات والمقاربات من أصحاب الحملات التي تتأرجح من النفايات والفساد، إلى الشعارات السياسية، من استقالة وزير إلى إسقاط الحكومة وصولاً إلى إسقاط النظام، ومن انتخاب رئيس الجمهورية إلى إقرار قانون انتخابي يعطي أملاً في تمثيل الفئات المستقلة والشباب والمرأة.

لنلاحظ أن سمة أساسية من سمات هذا التحرك هو أنه عابر للطوائف، خصوصاً أنه استقطب فئات واسعة من الطبقة الوسطى الأكثر ثقافة وانفتاحاً والتي شكلت قاعدته الأساسية وتجمعت تحت عباءته الفضفاضة كل المنوعات وتدحرجت كل المظالم وتظهّرت كل المطالب البيئية والأمنية والاجتماعية والصحية والحقوقية والدستورية والسياسية، ما شكل جاذباً لبعض الشخصيات التي تسلقت مع النظام الأمني السابق، كما لكثير من أصحاب السوابق اليسارية والعلمانية (علماً أن بعضهم ما زال يعيش في عصر جليدي مضى) إلى محاولات بعضهم للاستفادة منها لتذخير وتزخيم معاركه الدون كيشوتية العبثية.

والسمة الثانية هو أن مطالب الحراك ذات طبيعة عامة بمعظمها، بخلاف مطالب الحركات النقابية كهيئة التنسيق والاتحاد العمالي والمهن الحرة والهيئات الاقتصادية (وكلها من مكونات المجتمع المدني الواسع)، إذ إن بعض أمراض الطبقة السياسية تخترقها، بعد تدجين واستتباع بعضها (كالاتحاد العمالي الذي شكل جسراً لـ 7 أيار- مايو 2008) ومحاولة احتواء بعضها الآخر، ومع أن مطالبها قطاعية، إلا أنها لطالما لامست قضايا عامة في تحركاتها (مؤتمر البيال وتحركات هيئة التنسيق) كتعطيل المؤسسات والفساد السياسي والإداري والمالي وهي قضايا تكاد تأخذ البلد إلى الانهيار الاقتصادي والدولة الفاشلة، لذا قد تنشأ بعض الالتباسات بين الحراكات المدنية والحراكات النقابية والقطاعية.

والمفارقة هنا أن الجمعيات المدنية تتعاطى عادة بمواضيع عامة ولكن محددة، كديموقراطية الانتخابات وحقوق الإنسان والبيئة والثقافة والإنماء والسلام وأعمال الخير ويقترب بعضها من الدعوات التبشيرية، فهل يظن بعضهم أننا أمام انتفاضة وإرهاصات ربيع ما؟ ذلك أن الشعارات لامست قضايا من العيار الثقيل، ما يستدعي التبصر بطبيعة الأزمات. هل نواجه أزمة نظام ام أزمة كيان أم أزمة حكومة ومؤسسات، وهل الطبقة السياسية متساوية بالمسؤولية عن الأزمات، ذلك أن الخطر الأصلي على كيان البلد تتحمله فئة أساسية لا تخفي نفسها، وإن كان الجميع متساوياً في المحاصصة المستندة إلى العصب المذهبي المشاغب على السلم الأهلي والمتعارض مع المواطنة ومدنية الدولة. وللمفارقة، فإن الحرية النسبية التي تحمي اللبنانيين من سيادة الاستبداد والانقلابات والتطرّف، فضلاً عن القمع العاري، هي من إيجابيات النظام الذي نشكو منه جميعاً.

لسنا في حاجة لوسائل إيضاح في البحث عمّن يعطل المؤسسات من رأس الهرم حتى قاعدته، ومع ذلك فالتساؤلات كلها مشروعة أمام العواصف وتداعياتها في قضايا اللجوء والأمن والسلم الأهلي، كما في استشعار الانعكاسات على حزب الله والطائفة الشيعية، خصوصاً بعد الحراك المدني العراقي والاتفاق النووي والتطورات في سورية والمنطقة.

يشكل الحراك المدني قلقاً لحزب الله وحلفائه أكثر مما يشكل قلقاً لـ ١٤ آذار على رغم تحمل الأخيرة العبء الأكبر في تصدر الوزارات العسكرية والأمنية وبعض الخدماتية. فبالقدر الذي وجه الجنرال حشده مؤخراً ضد 14 آذار، مستنفراً العصب المسيحي بوجه العصب السني عازفاً على وتر الأقليات، فهو موجه أيضاً ضد الحراك المتعدد والمتنوع والديموقراطي. كما كان معبراً ضغط حزب الله الفاقع لسحب صورة نصر الله من لائحة السبع شخصيات «الفاسدة»، فضلاً عن تشجيع مشبوه لأعمال عنفية وتكتيكات فردية تضعف الحراك. من هنا نطرح التساؤلات والملاحظات التالية:

١- هل انتهت لحظة ١٤ آذار ٢٠٠٥ بما هي لحظة اجماع لبناني عابر للطوائف لاستعادة سيادة البلد وحريته وتعدده وتنوعه والتي من أجلها استشهد كثر من رفيق الحريري حتى محمد شطح مروراً بسمير قصير وجورج حاوي وغيرهما؟ علماً أن السيطرة السورية استبدلت بسيطرة ايرانية حزب اللهية ما زالت تعطل البلد وتمسك بخناقه، رغم ملامح المرحلة الجديدة بعد الاتفاق الأميركي الإيراني.

٢- وهل أصبحت 14 آذار عاجزة عن إدارة ربط النزاع مع الحزب وحلفائه، خصوصاً مع تداعيات الأزمة السورية وإيغال حزب الله في الدم السوري؟ وهل تطغى المحاصصة والزبائنية والفساد عموماً على المسألة الكيانية؟ علماً أن رائحة النفايات تغطي روائح الفساد والسرقة في المرفأ والمطار والكهرباء وفي البحر شاطئاً وقاعاً، فضلاً عن فضائح الأدوية والمخدرات والخطف. ثم ألا يشكل تعطيل الرئاسة والمجلس النيابي والحكومة والتطاول على المؤسسات العسكرية والأمنية ومحاولة جرها إلى مواجهات دموية تحت ستار الإرهاب، كشفاً كاملاً للبلد أمام الفوالق والعواصف والفوضى؟

٣- إذا كانت احزاب 14 آذار تعاني من خلل نتيجة بناها الطائفية ونتيجة تحملها أعباء إضافية في مشاركتها في السلطة وفسادها وخيباتها وشلل مؤسساتها، ما يجعلها قاصرة عن مخاطبة جمهور 8 آذار، الشيعي منه خصوصاً، ومربكة في مخاطبة الفئات والنخب الأكثر انفتاحاً، فهل يستطيع جنين المجلس الوطني أن يخرج وينمو في شكل طبيعي ويساهم في إعادة إمساك لحظة 14 آذار بما حملت من معاني التنوع والتعدد والتواصل بين المكونات في بلد حر وسيد ومنفتح على فضاء عربي طوعي وديموقراطي؟ وهل سيكون قادراً على التواصل مع جمهور 8 آذار من جهة على ضوء التغيرات في المنطقة، ومع جمهور الحراك المدني من جهة أخرى، علماً ان بعض أعضاء المجلس والمحيطين به «منتشرون» بساحات الحراك المدني.

٤- هل تستطيع أطياف الحراك المدني الموسع التمتع بالمسؤولية والنفس الطويل، عبر رفع مطالب وشعارات مرنة وواقعية، علماً أنه من غير المنطقي توقع حركة موحدة وصاعدة بلا تعثر، مع التمييز بين العمل المدني والنقابي والسياسي الحزبي، رغم وفرة التقاطعات والمساحات والقضايا المشتركة.

٥- إن الحراكات المتنوعة يمكن أن تشكل عامل ضغط على قوى ومواضيع الحوار، رغم انعدام الثقة، ذلك أن تفعيل وتشغيل وتحرير الحكومة ومؤسسات الدولة هو المدخل الأساس لمعالجة القضايا كلها بما فيها قضية النفايات وقضايا الفساد والهدر والإنتاجية، ويمكن الحراك أن يؤثر في قانون الانتخابات، ولكن على أساس انتخاب رئيس للجمهورية والتطبيق الجدي للدستور، والابتعاد عن التكتيكات الفردية والمغامرات والشعارات «الثورجية» التي تفرق ولا تجمع وربما تؤدي للفوضى وتصب الماء في طاحونة القوى الأشد مذهبية.

من هنا نرى أن أهمية الحراك لن تكون في اختراع قوة سياسية ثالثة، بل بالتأثير المستدام في الحياة السياسية المتداعية عبر فتح كوة في الجدار الطائفي والتحفز لمنع اسقاط البلد في المجهول، علماً ان إعادة نشوء أحزاب جديدة عابرة للطوائف وعير متكلسة تبقى مهمة أساسية، يمكن أن يشكل الحراك المدني، كما المجلس الواطني، روافد أساسية لها.

* كاتب لبناني.