لا شكّ في أن استمرار شغور منصب رئاسة الجمهورية في لبنان وعجز مجلس الوزراء عن اتخاذ القرارات ما لم تحظَ بإجماع أعضاء الحكومة، أظهرا افتقار الدستور اللبناني إلى ضوابط تحول دون وقوع البلد في الفراغ، لذا يبدو من الضروري تعديل الدستور لإدخال مواد فاعلة تمنع أي شلل على مستوى مؤسسات الدولة. إن الأزمة الحالية التي تحول دون انتخاب رئيس جديد للجمهورية، ومثلها الأزمة السابقة التي أنتجت اتفاق الدوحة وانتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، أثبتتا أن ثمة خللاً يشوب الآلية الدستورية اللبنانية الخاصة بعملية انتخاب رئيس الدولة (المادة 49 المعدلة بالقوانين الدستورية الصادرة تباعاً في 17/10/1927 و8/5/1929 و 21/1/1947 وو21/9/1990).
إلى جانـــب الانتــقادات الموجهة إلى أداء النواب لهذه الناحية، يبدو جلياً أن دستور الجمهورية اللبنانية ما زال يرتكز منذ عام ١٩٤٣ على الميثاق الوطني غير المدوّن الذي أبرمته القيادات اللبنانية آنذاك.
فالرئيس سليمان فرنجية كان الرئيس الوحيد، منذ الاستقلال، الذي وصل إلى سدة الحكم بعد معركة انتخابية حقيقية، خلافاً للآخرين الذين فُرضوا على مؤسسة الرئاسة أو وصلوا إليها نتيجة توافق سياسي كان دائماً نابعاً من توافق دولي وإقليمي.
ومع أن لهذا الميثاق الوطني الذي يُعرف بالديموقراطية التوافقية، عدداً من المميزات، كونه يأخذ في الاعتبار خصوصيات تكوين المجتمع السياسي اللبناني الطائفي، فقد ظهرت نواقصه والثُّغر التي تعتريه بفعل الأزمات المؤسساتية التي عاشها وما زال يعيشها لبنان منذ اتفاق الطائف الذي وضع حداً للحرب الأهلية عام 1990. ونتجت هذه الأزمات من غياب نصوص قواعد دستورية واضحة تضمن حسن سير العملية الانتخابية.
ومن أبرز الشوائب بروز طامحين إلى تولّي الرئاسة (لا يلزمهم الدستور تقديم ترشيحات رسمية معلنة مع برامج)، لا ينتظرون سوى إعلان هذا الطرف المحلي أو الخارجي أو ذاك تبنيهم كمرشحين، أو أن تتم دعوتهم إلى ممارسة الحكم (بعد التوافق على أسمائهم).
كذلك أظهر شغور منصب الرئاسة أن السلطة التنفيذية تبقى محكومة بالشلل بفعل عدم وجود رأس للبلاد، أي رئيس الجمهورية، ينشر المراسيم التي تصدرها الحكومة، فتحل هي محله، وهنا ينشأ الخلاف على توقيع تلك المراسيم: هل يحتاج إلى كامل عدد أعضاء الحكومة، أو إلى نسبة معينة منهم، هي التي تنص عليها صلاحية اتخاذ القرارات في الحكومة في الظروف الطبيعية؟
أما السلطة التشريعية فوجدت نفسها، في ظل الشغور الرئاسي، غير قادرة على الاشتراع بفعل تمسك بعض الأطراف بكونها هيئة انتخابية فقط بفعل استمرار عدم وجود رئيس للجمهورية، ولا يحق لها تالياً عقد جلسات تشريعية بغياب رأس البلاد.
بناء على ما تقدم، نقترح وفقاً للضرورة الملحة إعادة النظر في بعض مواد نصوص الدستور اللبناني لإزالة الشوائب منها وتوضيحها وتصحيح الخلل فيها وهذه هي الاقتراحات:
١- إلزام المرشحين الرئاسيين إيداع ملفات الترشُّح دوائر مجلس النواب المختصة قبل مهلة شهر من موعد الجلسة المعينة للانتخاب والتصويت، حتى يعرف المرشحون ويتمكنوا من الدخول في نقاش حول آرائهم ومواقفهم السياسية. وتزول بالتالي ظاهرة المرشحين الذين ينتظرون الإعلان عن ترشُّحهم بدعوة من أطراف سياسية أخرى.
٢- في حال حصول فراغ في الكرسي الرئاسي، يجب أن يتولى رئيس المجلس الدستوري مهام الرئاسة في شكل موقت، وهذه الوضعية شهدتها مصر عبر تولي رئيس المحكمة العليا في مصر عدلي منصور منصب الرئاسة بالوكالة وفي شكل موقت إلى أن تم انتخاب رئيس جديد. وفي لبنان، لا تقتصر مبررات إيلاء هذه المهمة عند الحاجة إلى رئيس المجلس الدستوري، على كونه يرأس مرجعية مولجة السهر على المبادئ الدستورية ودولة القانون، بل من أهم هذه المبررات أيضاً يكون مارونياً، أي من الطائفة نفسها التي يفترض أن يكون رئيس الجمهورية منتمياً إليها، مما يتيح تالياً طمأنة المواطنين من الطائفة المسيحية، لجهة عدم كون الرئيس الموقت من طائفة أخرى.
٣- ينبغي حرمان أي نائب تغيَّب عن حضــور أكثر من ثلاث جلسات انتخابية (أي مخصّصة لانتخاب رئيس للجمهورية) من دون مبرر أو عذر شرعي، من مخصصاته المـــالية البرلمانية. فليس من العدل أن يتـــقاضى ممثلــــو الشعب مخصّصات عن عمــــل لا يقومون به. كذلك يجب توضيح المادة ٤٩ من الدستور اللبناني لتحديد النصاب لينتخب الرئيس بالنصف زائداً واحداً إذا لم يتم انتخابه بالثلثين بعد أول جلسة، ويستمر النصاب بالنصف زائداً واحداً وتستمر الجلسة بهذا النصاب وإن عُقدت في يومٍ آخر، وذلك لعدم تعطيل النصاب وتعطيل انتخاب رئيس الجمهورية.
٤- عملية تأليف الحكومة يجب أن تكون مستوحاة من القوانين الدستورية الألمانية التي تنص على استحالة حل أو استقالة الحكومة القائمة قبل تأليف حكومة جديدة أخرى بصفة مسبقة. وعملية التصويت في مجلس النواب يجب بالتالي أن تأخذ منحى عكسياً، إذ يتم التصويت على الثقة بالحكومة الجديدة قبل التصويت على حجب الثقة عن الحكومة السابقة أو حتى صدور مرسوم قبول استقالتها.
إن تعديل الدستور على هذا النحو يحول دون الوصول إلى الشغور الرئاسي والفراغ المؤسسي اللذين أصبحا جزءاً من "الفولكلور" السياسي اللبناني. ولا شك في أن أزمة النفايات التي تشهدها البلاد حالياً هي الوجه الآخر لأزمة المؤسسات. وبالتالي، قد لا تكون هذه الاقتراحات كافية لمعالجة كل مكامن الخلل في العمل السياسي، لكنها تصلح لأن تكون بداية ضمان حسن سير مؤسساتنا الدستورية وحجر أساس في عملية إعادة بناء الدولة.
* محامٍ لبناني |