ككل الانتفاضات الشعبية التي عصفت بالعالم العربي في السنوات الأخيرة، أثارت انتفاضة التاسع والعشرين من آب (أغسطس) في بيروت، مواقف مختلفة ومتناقضة تباينت بين الترحيب أو التشكيك أو التبجيل والإفراط في التفاؤل. فقد اعتبرها البعض تصفية حسابات سياسية بين التيارات السياسية المتصارعة على الساحة اللبنانية، ورأى فيها البعض الآخر ظاهرة مألوفة على شاكلة الحركات الاحتجاجية التي اعتاد عليها اللبنانيون منذ ما قبل الحرب الأهلية، وذهب آخرون الى حدّ اعتبارها حركة ثورية تؤسّس لواقع سياسي لبناني جديد يتجاوز التشكيلة الطائفية التاريخية.
بعيداً من كل هذه المواقف والاعتبارات، نرى أن انتفاضة آب تنطوي على دلالات واستنتاجات سياسية واجتماعية وتاريخية لم تؤخذ في الاعتبار أو أنها خضعت لتفسيرات وتأويلات متسرّعة. في مقدّم هذه الدلالات بروز البعد الطبقي جلياً، هذا البعد أساسي في انتفاضة آب بل يفسّر أكثر وجوهها حدّة وعنفاً، إذ أكد أن ثمة أزمة عميقة بين النخبة الطبقية المهيمنة على الثروة، والطبقات اللبنانية الفقيرة والمعدمة التي راحت تتشكّل على أنقاض الطبقة الوسطى الآخذة في التحلّل منذ أواسط القرن الماضي، حتى باتت أكثرية اللبنانيين دون خط الفقر أو تكاد، فضلاً عن بطالة تصل الى نصف القوى العاملة اللبنانية، بخاصة بين الجامعيين، بينما تشير التقارير الإحصائية الى أن ثمة سبعة بليونيرات لبنانيين بين 36 بليونيراً عربياً، وأن قلة ضئيلة من الأثرياء والحكام تحتكر القسم الأكبر من الممتلكات والنفوذ والمنافع، يفاقم في الأزمة إدراك الفقراء، أو تصوّرهم على الأقل، أن ثروات الأثرياء إنما هي مغتصبة من أموالهم سرقة واحتيالاً. على هذه الخلفية، يجب أن تقرأ الشعارات التي رفعت في الانتفاضة، والتي شدّد أكثرها على السرقة والفساد ونهب الثروة الوطنية في صورة غير مشروعة.
لقد أهملت الطبقة الحاكمة مطالب الناس في الحياة الكريمة، ولم تبال بمطامح الفئات المتعلّمة والشابة، بل هي عاملتها بالتحايل والازدراء، ولم يكن الإجهاز على الحراك النقابي، الذي كان آخره إسقاط هيئة التنسيق النقابية، سوى وجه من وجوه التعامل التاريخي مع قضايا الشباب والمثقفين.
ومن دلالات انتفاضة آب واستنتاجاتها، تحرّرها من الاستقطاب الطائفي الذي اتسمت به أكثر الحراكات اللبنانية الراهنة، فقد التأمت على نحو عابر للطوائف وجاءت شعاراتها اجتماعية سياسية وطنية لا طائفية، إلا أن إفراط البعض في التفاؤل بهذه الظاهرة الى حدّ البناء عليها لتغيير جذري في السياسة اللبنانية، ليس سوى رهان خائب. إن انتفاضة آب ليست الانتفاضة العابرة للطوائف الأولى في لبنان، فتاريخ لبنان الحديث والمعاصر حافل بمثل هذه الحركات الثورية، بدءاً من القرن التاسع عشر حيث تشكّلت عاميات شعبية في أنطلياس ولحفد وكسروان، قاتل فيها الإقطاع الجائر حتى الاستشهاد، ألوف الثوار من كل الطوائف، مروراً بالحركات الطلابية في الستينات والسبعينات، وقد حضنت في صفوفها كل الطامحين الى مستقبل أفضل بصرف النظر عن الانتماء الطائفي، وصولاً الى حركة التنسيق النقابية التي مثّلت نموذجاً للنضال الاجتماعي اللاطائفي.
ذلك كلّه لا ينفي أن كل تلك الحركات الثورية، كانت حركات نخبوية ولم تكن حركات اجتماعية شاملة نهض بها المجتمع ككل، وفي هذا كان مقتلها، فقد كانت المواجهة تتم دائماً بين نخبة أقلوية وبين أكثرية رافضة وغائبة أو مرتهنة لمصالح فئوية. وها هنا قد يكون مأزق انتفاضة آب، فالطائفيون وزعماء الطوائف كانوا دائماً بالمرصاد، ولن يلقوا سلاحهم وهم قادرون على المواجهة وحشد الجموع إزاء النخبة العلمانية الوطنية المشغول بهم الوطن دون سواه.
ومن استنتاجات انتفاضة آب، عودة الخطاب الثقافي من خلال الوهم المتخيّل بتقدّم السلطة الثقافية على السلطة السياسية، وقدرة المثقّف على فرض توجهاته ورؤاه على السياسيين. وفي ذلك استعادة لمقولات مكرورة اعتبرت الاشتراكية والوحدة القومية العربية والديموقراطية ومقاومة الأصولية واجتثاث الفساد السياسي والاقتصادي، من مهام المثقفين، أناطتها كلّها بخطاباتهم التنويرية وبشجاعتهم في إعلان الحق والحقيقة. إلا أن المجتمع لا يتقدّم ويتطوّر بخطابات هؤلاء، ولا يأتمر بتصوراتهم فقط، وهذا ما خيّل لقادة انتفاضة آب، بل بعرق الناس ودمائهم، وهؤلاء لا ينضوون صاغرين تحت أية شعارات ثقافية نخبوية، أياً تكن بلاغتها، زد على ذلك محدودية دور المثقف في ظل استشراء الرؤى الطائفية وتراجع الخطاب العلماني والوطني وانحساره.
ومن استنتاجات انتفاضة آب كذلك، غياب الرؤية المستقبلية عند الطبقة السياسية الحاكمة التي يجب أن تضع في مقدّم اهتماماتها تطورات الواقع البيئي والاجتماعي وتحولاته، وكيفية مواجهة تلك التطورات والتحولات التي يفرضها الواقع الديموغرافي، والتي إن لم تؤخذ بجدية وتوضع لها الحلول العملية، تهدّد بتقويض الهيئة الاجتماعية من أساسها، فكيف بسلطة لا تملك تصوراً لإزالة النفايات من شوارع مدنها، ولا تدري كيف تتعامل مع احتجاجات شبانها وهواجسهم المشروعة؟
لقد شغلت سلطة ما بعد الحرب الأهلية بإعادة بناء عاصمة أفرغت من أهلها الذين كانوا يزدادون بؤساً وتبتلعهم المهاجر، وبينما كانت تمنّنهم بهذا البناء الذي رتّب ديناً عاماً تجاوز السبعين بليون دولار، كانت الهوة بينها وبين الناس توغل في الاتساع، وها هي انتفاضة آب تؤجج حقيقة الصراع دفعة واحدة. |