التاريخ: أيلول ١, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
حصانة التحرك اللبناني استقلاليته - خالد غزال
شكلت التظاهرة التي دعت اليها منظمات مدنية في 29 آب (أغسطس) 2015، نقلة نوعية في الحراك الشعبي الذي انطلق منذ ايام. نجحت التظاهرة ومنظموها في تجاوز السلبيات التي رافقت الحراك سابقاً، فطرحت فيها جميع المطالب الحياتية بعيداً، نسبياً عن التشبيح، وشاركت فيها مختلف الفئات الاجتماعية ومن جميع الطوائف، ورفعت شعاراتها ضد الاستقطابين 8 و 14 آذار. على رغم الشغب الذي لجأت اليه بعض الأطراف المذهبية، فذلك لم يؤثر على المشهد المهم الذي تميزت به ساحات بيروت. انفجر الشارع على امتداد الأسبوع بعد ان وصل الاحتقان الى أعلى درجاته، لذا لم يكن غريباً ان تستجيب الناس لأي نداء اعتراضي يطلق من اي قوة على الأرض. ليس حجم القوى المدنية والشبابية ونفوذها الشعبي هو السبب في استجابة الناس، بل حجم القضية المفصلية في ما يخص مصالح الناس هي التي جعلت من الجمهور متلهفاً للاستجابة لأي دعوة تدعوه للحراك.

الإيجابية الأساسية تؤشر الى وجود قوى شبابية، على استعداد للنزول الى الشارع رغم سياسة التيئيس والإذلال التي اعتمدتها الطبقة السياسية والطوائفية السائدة، حاشدة منوعات من الفئات الاجتماعية ومن الطوائف كلها من دون استثناء. وهو أمر ستنظر اليه الطبقة السياسية بجميع منوعاتها نظرة غير مطمئنة، مما يجعلها تعمل المستحيل من أجل إجهاض كل تحرك غير طائفي، وإعادته الى عرينها كأفضل وسيلة لمنع تطوره. من موقع المؤيد للحراك ولقواه الشبابية، يجب طرح مسائل نقدية تتصل بما جرى على الأرض، وضماناً للتحركات المقبلة من ان لا تتمكن القوى الطائفية – السياسية من الهيمنة على التحرك وجعله يصب في مصالحها. هذا يستدعي نقاشاً صريحاً لما جرى على الأرض.

كان عنوان الحراك المدني متركزاً على شعار حل أزمة النفايات التي هي عنوان لقضايا حياتية كثيرة. احتشد الجمهور في ساحات البلد تحت هذا الشعار، وسار في مراحله الأولى في شكل سلمي وفق ما كان المنظمون يدعون اليه. فجأة اندلعت شعارات سياسية لا علاقة لها بعمل المجتمع المدني ونوع توجهاته، فانتقلت الشعارات من المطالب الحياتية المحددة الى شعارات إسقاط الحكومة ثم إسقاط النظام الطائفي وصولاً الى الثورة الدائمة المطلوب تحقيقها. استتبع ذلك مظاهر عنفية ضد قوى الأمن المولجة حماية المؤسسات الرسمية، مما جعل الفوضى السمة العامة للتحرك، وضاع معها صوت المؤسسات المدنية التي أطلقت التحرك لمصلحة أجندات سياسية أكبر منها بكثير.

في «الخبيصة» والفوضى التي سادت، بدا ان بعض من قادوا الحراك تحت عنوان القضايا الحياتية، تحولوا الى زعماء سياسيين لا يقبلون الا بإسقاط النظام الطائفي، وكأنهم فقدوا توازنهم لدى رؤية الجمهور الكبير، فظنوا ان الناس أتت لتنضوي تحت قيادتهم، ولم يدركوا ان الناس أتت استجابة للقضايا الحياتية. دخل على الخط قوى سياسية أخرى من بقايا يسار كان دائماً على جهل بمعنى الطائفية والنظام الطائفي، الذي هو في حقيقته تمثيل للشعب اللبناني المنضوي تحت لواء مؤسساته الطائفية، فيما لا يمثل من يقف خارجه سوى الهوامش. فأي معنى لهذا الشعار الذي يدعو الى إسقاط الشعب نفسه، ثم من هي القوى البديلة لتولى السلطة خارج هذه المؤسسات الطائفية. هذه البقايا اليسارية إضافة الى بعض من لا يزال يصنف نفسه ناصرياً، هي اليوم تعمل تحت عباءة القوى الطائفية نفسها وتسير مجرجرة اذيال هذه القوى. شكلت ممارسات هذه القوى طعنة كبيرة في مسار التحرك. وفي جانب آخر، بدا ان الشعارات السياسية الكبرى تترجم أجندة التيار العوني و»حزب الله» في تغيير النظام، وكان لافتاً غياب الدعوة للاعتصام من أجل انتخاب رئيس للجمهورية بوصفه المدخل لاستقالة الحكومة وانتخاب مجلس نيابي جديد. هكذا بدا التحرك يسير تحت شعار هذه التيارات السياسية. فاقم الأمر الممارسات المذهبية ضد مكونات طائفية من قبيل كتابات ورفع هتافات مثل: الحريري = شارون، او محاولة اقتحام مسجد محمد الأمين في ساحة الشهداء، بما أعطى انطباعاً ان الحراك هو ضد هذا المكون الطائفي ورموزه.

هذه الممارسات على الأرض أظهرت ان بإمكان قوى مجتمع مدني إطلاق تحرك شعبي تستجيب له الناس، لكن التحدي هو في الإمساك بزمام قيادته والحفاظ على استقلاليته ومنع تجييره لمصلحة أجندات قوى طائفية ومذهبية متربصة بكل حراك لأخذه لمصلحتها. لن تكون هذه المحطة نهاية المطاف في الحراك، فحجم القضايا ستظل مادة مشتعلة كل يوم ومادة للاحتشاد الشعبي الضاغط. لن تكف القوى السياسية والطوائفية عن التدخل بشتى الوسائل لإجهاض التحرك طالما كان بعيداً من أجندتها وطوائفيتها، مما يطرح تحدياً كبيراً على اي قوة داعية الى الحراك في كيفية الحفاظ على استقلاليته كضمانة لنجاحه وتوظيفه في خدمة اللبنانيين ومصالحهم وليس في خدمة الطوائف والمذاهب بزعمائها السياسيين والطوائفيين.

* كاتب لبناني