التاريخ: آب ٣٠, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
«جيل ما بعد ٨ و١٤ آذار» - سامر فرنجية
ليس هناك من «شعب» في لبنان تصدر عنه السلطات وتعود إليه لحظة الأزمات، ويمكن أن يشكّل بديلاً عن «النظام». وليس هناك «مجتمع مدني»، يقوم تدريجياً بـ «عقلنة» المجتمع، وقد يشكّل منظومة حكم بديلة. وليس هناك «شارع»، يختصر الشرعية ويحتكرها، ويعبّر عنها في لحظات تعطيل الأطر المؤسّساتية للشرعية. من نزل إلى الساحات في الأيام الأخيرة، مزيج من هذا كله وأكثر، «اندسّوا» على بعضهم البعض ليكوّنوا أكبر التظاهرات منذ «مليونيات» تحالفي ٨ و١٤ آذار الشهيرين. ليسوا بديلاً عن أحد لأنّه ليس من بديل. وهذا ليس مشكلة. هم، كتجمّع لمكوّنات عدة، نتيجة سياق تاريخي. فالمقارنة هنا مع تظاهرات الـ ٢٠٠٥ ليست من باب العدد فحسب، بل هي إشارة إلى العلاقة بين هاتين اللحظتين وبوادر انتهاء مرحلة بدأت في الـ ٢٠٠٥.

أطّر تحالفا ٨ و١٤ آذار الحياة السياسية، حزبياً أو طائفياً أو خطابياً، منذ عقد، ليصبح انقسامهما البنية المؤسِّسة للسياسة اللبنانية. وعلى رغم امتعاض البعض من هذا الاحتكار، نجح الانقسام في الاستحواذ على جميع المواقع السياسية والسيطرة المطلقة على الخطاب السياسي، لتنزلق أية حركة سياسية أو موقف سياسي تلقائياً إلى أحد طرفي المعادلة. ربما كان هناك مبرر لهذا التجاذب في لحظة سياسية معيّنة. بيد أنّ تلك الثنائية بدأت تهتزّ على أثر التحوّلات الإقليمية من جهة، وفشل ممثليها داخلياً من جهة أخرى، لتصبح ثنائية قاتلة للسياسة والبلاد. لم يظهر تعبير، سياسياً، عن هذا الاهتراء قبل تظاهرات الأيام الأخيرة، التي كسرت احتكار ممثلي هذين الطرفين، عبر دخول من سمّاهم حازم صاغيّة «جيل ما بعد ٨ و١٤ آذار» على السياسة. وهم جيل ما بعد الاستقطاب، وليسوا تكراراً للمحاولات السخيفة في كسر هذه الثنائية، كتحرّك «١١ آذار».

فـ «جيل ما بعد ٨ و١٤» ليس طليعة لشعب موحّد أو الجزء الضاجّ من أكثرية صامتة أو تحالف «الأوادم» في وجه «الزعران». إنّه جيل دخل السياسة والبلد مقسوماً حول شعارات ٨ و١٤ التي شكّلت لكثر منه أحد المدخلين إلى السياسة. فهم بعض من أضفى شرعية سياسية على التحالفين تفوق شرعيّتهما الطائفية، وهي محاولة ربّما كانت مبررة في لحظة ما، غير أنّها سقطت بعدما تبيّن أنهما غير قادرين أو راغبين في حمل أي عنوان سياسي يفوق التجييش الطائفي الرثّ. فـ «جيل ما بعد ٨ و١٤»، لا يمثل بالتأكيد كل من شارك في التظاهرات الأخيرة، لكنه دخل إلى السياسة من هذه التجربة ليجد نفسه، بعد عقد، أمام خداعهما. أما من شارك ولا يزال يعتقد أنه يمكن التوفيق بين معارضة «النظام» ودعم طرفه السياسي المفضّل، فهذا لا يزال يفضّل خداع النفس على خداع الحبيب.

جزء من هذا الجيل دخل السياسة من باب «المقاومة» وحزبها، ليحوّل حزب الله من حزب مذهبي إلى أحد أركان اليسار العالمي، يعوّل عليه لمقاومة كل شيء، من المحتلّ إلى الفساد وصولاً إلى الانحباس الحراري. قامت التلفيقات آنذاك على مقولات سلاح الداخل والخارج وتزامن التحرير وبناء الدولة، ليتحوّل حزب الله من المقاوم الصامت إلى حامل أحلام التحرّر. أمّا الجزء المقابل، فدخل السياسة وحوّل تحالفاً سياسياً اشتهر بفساده إلى ممرّ إجباري للعبور إلى الدولة. لم يستغرب العابر إلى الدولة أن يصطدم بأحد رموز ١٤ آذار عند محاولة العبور هذه. فالتبرير دائماً كان حزب الله وأولية السلاح.

العنف قاتل للسياسة، وهذا كان الجزء الصائب من معادلة ١٤ آذار. غير أن قدرة رموز هذه القوة على التعايش مع العنف فاقت قدرتهم على العبور إلى الدولة.

بدأ طلاق هذا الجيل مع سياسة هذه الثنائية تدريجاً، على أثر فشلهما الداخلي. غير أنّ الحدث المؤسّس للطلاق يبقى الثورة السورية، التي سرّعت انهيار الطرفين، مهما كانت مواقفهما منها. فجاءت الثورة لتؤكد ما كان يعرفه كثر من أن حزب الله حزب سلطة، والعنف طريقه الوحيد للحفاظ على سيطرته. وبقي البعض يحاول أن يوفّق بين القاتل والقتيل عبر مقولة السلاح الموجّه جنوباً وذلك الموجّه شمالاً. بيد أنّه حتى حسن نصرالله نفسه ملّ محاولاتهم، وانتهى تحالف ٨ آذار في سورية، ليجد البعض نفسه مخدوعاً بالسيد وإطلالاته المتلفزة. غير أنّ الثورة السورية قضت أيضاً على سبب وجود قوى ١٤ آذار، عبر تحرير نقد حزب الله من احتكارها الذي بات ابتزازاً. فما تبقى من هذه القوى، بعدما سُحِب منها هذا الاحتكار، هو احتكاراتها الأخرى، من الدالية إلى النفايات وصولاً إلى الوسط التجاري، ومنظّرون حوّلوا الدفاع عن «سوكلين» إلى عمل ثوري، لكنهم سكتوا عن الانتخاب المتكرّر لنبيه برّي والتنسيق الأمني مع حزب الله في وزارة الداخلية والتفاهم مع الخصم العوني على القوانين الأرثوذكسية.

هذا لا يعني أن هذا الجيل سينجح لمجرّد أنّه جيل ما بعد الثنائية أو ما بعد فشلين. ومن غير الواضح ما هو معيار النجاح أو الفشل في هذا السياق. فليس هناك من نظام لكي يسقط، وليس من دولة لتُصلح، وهناك حرب أهلية قادمة مع انهيار كامل لمؤسسات الدولة. بيد أنّ نجاح التحرّك الأوّلي كان في بداية تحرير النقد من احتكار الطرفين، وبالتالي بناء خطاب مستقل من دون أن يكون «خارجاً عن الموضوع».

فالمسألة الاجتماعية بدأت تتحرّر من احتكار جوقة ٨ آذار، بخاصة مع انغماسها في الفساد العام. والمطلوب الآن تحرير نقد حزب الله من 14 آذار قبل تعميمه. فمن دون ربط المسألة «السيادية»، وعنوانها الأساس اليوم هو خطر حزب الله، بالمسألة الاجتماعية، سيبقى «العبور» إلى جيل ما بعد الآذرين غير مكتمل.

«جيل ما بعد ٨ و١٤» لا يعني تساوي الطرفين، بل رفضهما. غير أنّ هذا الجيل يدخل السياسة في وضع سياسي معيّن، ليس تكراراً للتسعينات، أي لما قبل «٨ و١٤». هو وضع يتنافس فيه هذا الجيل مع الوريث الآخر لهذه المرحلة، أي الصراع المذهبي العابر والكاسر للحدود. وهنا أيضاً، يعود هذا الجيل ويجد نفسه في وجه… حزب الله.