التاريخ: آب ٣٠, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
كيف ينخرط المثقّفون في محاربة الإرهاب؟ - محمد الحدّاد
انخراط المثقّفين في محاربة الفكر الإرهابي ليس ظاهرة جديدة، يكفي أن نذكّر بأنه انخراط دفع البعض منهم حياته ثمناً له، مثل محمود محمد طه الذي أعدمه تحالف النميري والإخوان المسلمين بقيادة حسن الترابي عام 1985، وفرج فوده الذي اغتالته الجماعة الإسلامية بمصر ليلة عيد الأضحى عام 1992، وكاد يلاقي الأديب الشهير وصاحب جائزة نوبل للآداب، نجيب محفوظ، المصير نفسه بعد سنتين، على يد شاب نفّذ فتوى الشيخ المتشدّد عمر عبدالرحمن، ما تسبّب في شلّ يد محفوظ ومنعه من الكتابة. والقائمة طويلة لضحايا الإرهاب الذين لم يحملوا يوماً سلاحاً ولا أداروا تنظيمات سريّة أو دبّروا انقلابات، وإنما كانوا يكتبون أفكارهم ووجهات نظرهم ولا سلاح بين أيديهم غير القلم.

ولا شكّ في أن التطوّرات المتسارعة في السنوات الأخيرة جعلت قضية الإرهاب تحتلّ الصدارة بين قضايا أخرى عدة تنخر المجتمعات العربية والإسلامية والأقليات المسلمة في الدول غير الإسلامية، بما حوّل الإلتزام بمحاربته من جهود محدودة لبعض الأفراد إلى انخراط واسع من شرائح متنوّعة في المجتمع، ولم يعد الأمر منحصراً ببعض المثقفين بعدما عمّ ضرر الإرهاب الجميع، لا سيما بعد أن انهار الكثير من الآمال التي كانت معقودة على الثورات العربية بسبب الحركات التكفيرية والإرهابية التي استغلتها لبث الفوضى ونصّبت نفسها بديلاً عن الأنظمة المنهارة ومكّنت الثورة المضادّة من استعادة مواقعها مستغلة الخراب الذي أصبح محدقاً بالأوطان.

وإذ تنوّعت تبعاً لذلك الأشكال التي يتخذها هذا الالتزام بتنوّع أصناف المتدخلين، فإنّ المثقفين مطالبون بتحديد مجالات متميزة يمكن أن تكون مساهماتهم فيها أكثر فائدة ونفعاً، كي لا يكون هذا الانخراط من قبيل الدعاية الاستهلاكية ذات النكهة السياسوية الممجوجة، وإنما تتنزّل في إطار الفعل المجتمعي العميق الذي يواصل مشروع التنوير ونقد العقل العربي/ الإسلامي المكبّل بالقابلية الذاتية للتكفير والعنف والغربة عن العالم المعاصر.

فلا يمكن فهم لماذا يقع هذا العدد الهائل من الشباب المسلم في شراك الإرهاب من دون فهم مخلّفات عصور الانحطاط التي جعلت العنف مستبطناً في شخصية الآلاف من البشر، يتحيّن الفرصة للتحوّل من طور الكمون إلى طور التنفيذ، طالما لم يتحقّق الإصلاح والتحديث وتنتشر مبادئ التسامح والتاريخية واحترام التنوّع وتقديس الذات البشرية، الخ.

والرأي عندي أن محاربة المثقفين للإرهاب تكون أكثر صدقية عندما تتنزّل في إطار انخراط أوسع وأشمل للدفاع عن «الحكم الرشيد» القائم على احترام الحرية والكرامة لعامة المواطنين، بما في ذلك حرياتهم الدينية، وتحقيق أكبر قدر من العدالة الاجتماعية. فالإرهاب خطر كبير لكنه ليس الخطر الأوحد على المجتمعات، كما أن مصيره مرتبط جدلياً بحلّ القضايا الأخرى.

ثم إنّ محاربة الإرهاب محاربة ثقافية تستدعي، ثانياً، التركيز على البديل الأساسي والمشترك بين الجميع، أعنى المواطنة، من دون البدائل العقائدية أو الأيديولوجية التي تفتح أبواباً واسعة للجدل. والمواطنة بديل مشترك لأنها تعني قبول التعددية والتنوّع في المجتمع وتعايش البشر على أساس مدني لتحقيق حاجياتهم، بدل الصراع الأبدي في قضايا لا يمكن حسمها بين البشر. ولقد قصّر المثقفون سابقاً في الدفاع عن المواطنة وساهموا في إضعافها بالارتماء في البدائل الأيديولوجية «ما فوق المواطنية»، ربما لأنهم كانوا يعانون مثل غيرهم الحرمان من مزاياها. لكن ينبغي أن يكون شعار المرحلة الحالية: المواطنة أوّلاً.

ولما كان الإرهاب مرفوضاً لدى المثقفين فإنه لا معنى، ثالثاً، لأن يدور اجتماعهم على تأكيد هذا الرفض، فهو من تحصيل الحاصل، بل الأجدى توجيه الاهتمام إلى سببه المباشر وهو التكفير، وقد بدأ انتشاره محدوداً مع ظهور الإسلام السياسي ثم ما فتئ يتفاقم، من أتباع سيّد قطب إلى «الجهاد الإسلامي»، ومنه إلى «القاعدة» ثم «داعش»، وقد يأتي ما هو أكثر تطرفاً، إذ يبدو الإبداع في هذا الميدان بلا حدود.

فالعديد من المجتمعات في التاريخ عانى ويعاني الكبت والبؤس، وقد أنتج ثورات تحرّرية ولم ينتج إرهاباً، وهذا دليل حاسم على أنّ الأبعاد الاجتماعية والسياسية تهيّء التربة الملائمة للإرهاب لكنها ليست سببه المباشر، وإنما يصنع الإرهاب استعمال التكفير سلاحاً سياسياً، ولو كان لغايات مشروعة أحياناً، إذ إنه سلاح غير قابل للتحكّم وغالباً ما يعود بضرره على الجميع. ويسعى البعض للتمويه والمغالطة في هذا الموضوع فيقول: أليس في كلّ دين ضوابط تحدّد الانتماء إليه؟ والجواب أنّ موضع الاختلاف ليس وجود الضوابط من عدمها وإنما التسليم لجماعات سياسية بأنّها المؤهلة لتحديد هذه الضوابط وتطبيقها على البشر (لا سيّما على معارضيها!).

ولا يستنتج من كلامي هذا اعتبار محاربة الإرهاب محاربة للإسلاميين عموماً، أو اعتبار هذا الفصيل خارج دائرة الانخراط في محاربة الإرهاب، بل الواجب تشجيع أصحابه على مراجعة مسلماتهم التأسيسية، والتخلّص من رواسب الأطروحات التكفيرية، الصريحة والمضمرة والواعية والمستبطنة، والفيصل ليس إعلان شجب الإرهاب لأنه أيسر المواقف لديهم، وإنما تحديد موقف واضح من التكفير السياسي.

ولعلّ أهمّ ما ينبغي التأكيد عليه أنّ الحرب على الإرهاب ليست حرب فرقة ناجية ضدّ فرق ضالة، وإلاّ دخلنا منطق الحروب الدينية، وإنما هي حرب المواطنين جميعاً، مهما كانت انتماءاتهم الدينية والمذهبية، ضدّ من يسعى إلى تخريب العيش المشترك بينهم ويبرّر قتل الإنسان والاعتداء على حرمته الجسدية والمعنوية، أياً كان هذا الإنسان. وقد كتب أحد التنويريين العرب في القرن التاسع عشر هذه العبارة البليغة: «إذا كان الله سبحانه وتعالى يشرق شمسه في هذه الأرض على الصالحين والاشرار معاً فيجب على الإنسان أن يتشبه به ولا يضيّق على غيره لكون اعتقاده مخالفاً له. والإنسان من حيث هو إنسان، بقطع النظر عن دينه ومذهبه، صاحب حقّ في كلّ خيرات الوطن ومصالحه ووظائفه، وهذا الحقّ لا يكون له من يوم يدين بهذا الدين أو بذاك بل من يوم يولد».