للوهلة الأولى: شبّان وشابّات نزلوا، بشجاعتهم وبنبلهم، إلى
الساحة، وتلقّوا القمع بصدورهم كاشفين لنا كيف أنّ الدولة في لبنان قابلة دوماً أن ترتدّ إلى مجرّد سلطة
جلفة.
وكم هو غنيّ الدلالة أن يترافق العجز عن أداء أبسط الخدمات، ممثّلةً هنا
بالتخلّص من النفايات، مع القدرة على ممارسة الانتهاك الجسديّ. فلئن قيل ذات مرّة إنّ الدولة هي التي
تمدّ سكّة حديد وتبني مخفراً، دلالةً على جمعها بين الوظيفتين الخدميّة والقمعيّة، اقتصرت دولتنا في
شكلها الراهن على الوظيفة الثانية دون الأولى.
أنكى من ذلك أنّ التجرّؤ على
القمع لا يساوي، ولا يمكن أن يساوي، بين لبنانيّي الطوائف ولبنانيّي المسائل غير
الطائفيّة.
فالدولة هي للأوّلين وحدهم، وما دام هؤلاء الأوّلون صانعيها،
فإنّهم ليسوا محصّنين من قمعها فحسب، بل هم القوّة التي باسمها يجري قمع الآخرين. بلغة أخرى: الدولة
دولة أولئك الذين "طلعت ريحتهم".
في هذا المعنى، ممارسة السياسة في لبنان عيب
وقلّة احترام للنفس، وما من سياسة خارج الطوائف.
للوهلة الثانية: كأنّ هؤلاء
الشبّان والشابّات هم أيضاً لم يستطيعوا الخروج التامّ من ربقة السياسة الطائفيّة: اختفاء صورة حسن
نصرالله عن ملصق الذين "طلعت ريحتهم"، وكذلك بعض الشعارات، يشيان بذلك. يا لقوّة هذا الانقسام الطائفيّ!
إذاً: استقالة الوزير سوف تأتي بوزير آخر من حصّة الطائفة، وحلُّ المجلس سيؤدّي مجدّداً إلى انتخاب
(نعم، انتخاب) مجلس مشابه.
للوهلة الثالثة: كائناً ما كان، يبقى أنّ هذا
التحرّك ينمّ عن ظهور أفراد في جيل ما بعد 8 و14 آذار، يريدون التفلّت، إلى هذا الحدّ أو ذاك، من
إشكاليّة 8 و14. هؤلاء أحسّوا بعفن الكتلتين، بخطر السلاح والفساد في وقت واحد، وبأنّه لولا السلاح
لكانت الدولة أقوى على الفساد، ولولا الفساد لكانت حجّة الدولة أقوى على
السلاح.
لكنْ إذا كان التقدّم من ثنائيّة 8 و14 إيجابيّاً، من حيث المبدأ،
يبقى القلق قائماً حول المحطّة التي سيجري التقدّم نحوها، ناهيك عن حجم الذين ينوون إحداث هذا التقدّم.
يُخشى، إن لم تتوافر هذه المحطّة، أن تقودنا الحركة إلى ما قبل 8 و14، والعناوين هنا كثيرة: من 1860
حتّى اليوم.
على نطاق عربيّ أوسع، ولسوء الحظّ، يحصل ما يحصل فيما يتأكّد أنّ
"الشعب" لا يستطيع إسقاط "النظام". حروب أهليّة؟ ربّما. تغيير سياسيّ على نطاق وطنيّ؟
لا.
الانسداد شبه محكم وسوف نعيش، إلى ما شاء الله، في هذا الانسداد. مكسب
كبير أن نحلّ مشكلة النفايات من دون "تكبير الحجر". |