(1)
في أواخر تموز (يوليو) الماضي، عقدت مدينة الإنتاج الإعلامي في القاهرة مائدة مستديرة لمناقشة «دور الإعلام في مواجهة الإرهاب». وشارك في الندوة إعلاميون وأساتذة إعلام ومجموعة من أصحاب القنوات التلفزيونية الخاصة بالإضافة إلى ممثلين للقنوات الحكومية.
وقد دعيتُ للمشاركة في هذه الندوة المستديرة نظراً لاهتمامي المتجدد بالإعلام ودوره الاجتماعي، سواء الإعلام التقليدي قبل مجيء عصر العولمة، أو الإعلام المعاصر. والإعلام المعاصر هو في الواقع ربيب ثورة الاتصالات الكبرى والتي تقوم على أساس البث التلفزيوني الفضائي وفي قلبها شبكة الإنترنت التي قلبت موازين عملية الاتصال العالمية، فقد أصبح متاحاً لكل مواطني العالم –إن صح التعبير– أن يتواصلوا عبر أدوات إلكترونية مبتكرة، مثل «البريد الإلكتروني» و «غرف النقاش»، وابتُدعت ألوان متعددة للتعبير عن الرأي بلا حدود ولا قيود، كان أبرزها «المدونات» blogs، التي انطلقت تعبر عن الآراء السياسية المخالفة بعيداً من رقابة الحكومات، ثم ظهر «تويتر»، وهو «تغريدات» بالغة القصر (لا تزيد على 140 حرفاً) تحمل وجهات نظر مركزة في شؤون البلد أو العالم. وأخيراً ظهرت ثورة الـ «فايسبوك»، الذي أصبح مجالاً عاماً جديداً يتلاقى فيه ملايين الناس.
ومن ثم، فقد أصبحت لمناقشة دور الإعلام في مواجهة الإرهاب أسبقية كبرى في البحث والدراسة، لأنه أصبح الوسيط الأساسي الذي تستخدمه الجماعات الإرهابية في الترويج لعقائدها المتطرفة، أو لتجنيد المتعاطفين مع أفكارها، ليس داخل بلد محدد وإنما على مستوى العالم. وقد رأينا كيف أن رسالة تنظيم «داعش» الإرهابي عبر الإعلام وصلت إلى قلب المجتمعات الغربية، حيث شهدنا ظاهرة لافتة للنظر حقاً هي التحاق مواطنين من بلاد أوروبية شتى، مثل فرنسا وبريطانيا وغيرها بصفوف «داعش» بعد أن بلغتهم الدعوة المتطرفة عن طريق الإعلام. وقد قدمت في هذه المائدة المستديرة بحثاً شاملاً موضوعه «الدور المعرفي والتنويري للإعلام في مواجهة الإرهاب»، وركزت في بداية البحث على مجموعة من المبادئ التي حددت الإطار النظري له.
وفي مقدم هذه المبادئ أن الإعلام –في أي بلد– لن يستطيع القيام بدور فعال في مواجهة الإرهاب إلا إذا قام بدور معرفي ودور تنويري.
والدور المعرفي يتمثل أساساً في التشخيص الدقيق لظاهرة الإرهاب من وجهة نظر العلم الاجتماعي حتى تتبين أبعاده المختلفة، ويمكن بناء على هذا التشخيص بناء سياسة متكاملة لمواجهته.
ومن ناحية ثانية لا بد للإعلام العربي -على وجه الخصوص– من معالجة موضوع تجديد الخطاب الديني باعتباره ضرورة حتمية في المواجهة الثقافية للإرهاب.
وأخيراً حتى يقوم الإعلام العربي بدوره التنويري المفتقد، فلا بد من التركيز على أهمية تكوين «العقل النقدي» باعتبار ذلك البداية الضرورية لتجديد الفكر الديني.
(2)
وهناك في مجال إبراز الدور المعرفي للإعلام في مواجهة الإرهاب موضوعات شتى لا تمكن الاستفاضة في تفاصيلها، ولكن نستطيع أن نشير إلى أبرز معالمها.
وأول هذه الموضوعات هو ضرورة الدراسة النقدية لتأويل الإرهابيين النصوص الإسلامية. وهذا موضوع بالغ الأهمية، لأن الجماعات الإرهابية استطاعت عن طريقه، باستخدام ما أطلقنا عليه في دراسة سابقة لنا منشورة «آلية القياس الخاطئ والتأويل المنحرف»، أن تبرر منطق تفكيرها المنحرف، وتضفي الشرعية على أساليبها الإجرامية التي تتمثل في ذبح الرهائن علناً أو إحراقهم أو إغراقهم ونشر ذلك على وسائل الإعلام المختلفة بالصوت والصورة، لبث الرعب في القلوب وإظهار أن قوتها التدميرية لا حدود لها.
ولذلك، فإن مقولات مثل: جاهلية المجتمعات العربية والإسلامية، أو تكفير غير المسلمين باعتبارهم كفاراً يجوز قتالهم في الداخل أو في الخارج، بل وقتل المسلمين الذين يتبعون «الطواغيت»، أو الحكام العرب والمسلمين الذين لا يطبقون شرع الله في نظرهم، كل هذه المقولات تحتاج إلى تفنيد بنشر التفسيرات الصحيحة من الكتاب والسنّة، حتى لا تنخدع الجماهير بالخطاب التحريضي لهذه الجماعات الإرهابية.
أما الموضوع الثاني المهم، فهو تشريح العقل الإرهابي –إن صح التعبير– من وجهة نظر العلم الاجتماعي بفروعه المتعددة، مثل علم الاجتماع وعلم النفس، لبيان كيف يتشكل هذا العقل، وما هي الآليات الأساسية التي تطبقها الجماعات الإرهابية في تشكيله، وكيف يمكن رسم سياسة متكاملة لتغيير اتجاهات أعضاء التنظيمات الإرهابية والمتعاطفين معها حتى تتبدل رؤيتهم للعالم التي تتسم بالانغلاق والتعصب ومعاداة غير المسلمين وتكفير المسلمين. ولا بد من رصد التفاعل والصراع بين الذات الإرهابية والمجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة لبيان المجالات التي يشتد فيها الصراع، سواء بالنسبة إلى نسق التربية داخل الأسرة، أو نوع النظام التعليمي، أو الموقف من المرأة، أو رفض الفنون والآداب، أو اعتماد الماضي باعتباره المرجعية الأساسية التي يعتمد عليها لرسم قواعد السلوك في الحاضر أو في المستقبل، بغض النظر عن تغير الأزمان وعدم مطابقة التفسيرات التقليدية للأوضاع العالمية الراهنة.
وهناك في تجارب الدول العربية خلال مواجهتها موجات الإرهاب، خبرات تستحق الدراسة، خصوصاً في السبعينات في بلد مثل مصر نشطت فيه جماعتا «الجهاد» و «الجماعة الإسلامية» الإرهابيتان. واستطاعت الحكومة المصرية أن تقيد حركة هذه الجماعات وتعتقل الألوف من أعضائها ممن ارتكبوا أفعالاً إرهابية في السجون والمعتقلات، التي قام مارس قادة هذه الجماعات فيها «النقد الذاتي»، من خلال نشر مجموعة متنوعة من الكتب أطلق عليها «المراجعات»، اعترفوا فيها بأخطائهم الفادحة في التأويل المنحرف للآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وقدموا اعتذاراً عن جرائم القتل والاغتيال والترويع التي قاموا بها.
جهد مماثل يمكن القيام به بالنسبة الى من يتم القبض عليه من الإرهابيين الذين يودعون السجون بعد الحكم عليهم بالعقوبات المناسبة. ومن الأهمية بمكان في مجال مواجهة الإرهاب تبني نظرة متكاملة للظاهرة لا تركز على عامل دون آخر، بمعنى ضرورة التركيز على العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية المولدة للإرهاب. ويقتضي ذلك صياغة سياسة ثقافية فعالة تقوم على أساس جهد الهيئات المنوط بها تطبيق القانون من ناحية، والجهود المجتمعة والشعبية من ناحية أخرى، وهناك أهمية كبرى لتجديد الخطاب الديني، غير أن هذه قضية معقدة لا تتاح لنا -بحكم الحيز المحدود– معالجتها في هذا المقام.
(3)
ويبقى أمامنا توضيح الدور التنويري البالغ الأهمية الذي على الإعلام العربي القيام به، والذي يعاني في الواقع من إهمال شديد، لعدم الوعي الكافي بأهميته القصوى. هذا الدور التنويري يتلخص في عبارة واحدة هي «أهمية تأسيس العقل النقدي العربي» الذي يطرح كل ما في الطبيعة والمجتمع للتساؤل، بدلاً من سيادة «العقل الاتباعي» الذي يقوم على التسليم بما هو سائد من معتقدات وآراء وسياسات تجاوزها الزمن الذي نعيش فيه، ونعني عصر العولمة بكل الانقلابات الكبرى التي أحدثها في حياة البشرية.
* كاتب مصري |