نشهد اليوم تسارعاً مرعباً للإقصاء الديني في المنطقة، نتج عنه، في العديد من الأحيان، عسكرة للطوائف في العراق ولبنان وسوريا واليمن؛ حيث الكل يدافع عن نفسه بالسلاح بعد أن تآكلت الدولة، حتى دخلت المنطقة في صراعات طائفية تهدد التنوع المذهبي والديني والعيش المشترك الذي شهدته هذه البقعة لقرون عدة.
وقد شهدنا مقاربات عدة في السابق لهذه الظواهر، عجزت حتى الآن عن معالجة الأسباب الحقيقية للمشكلة. بعض الدول الغربية تدخلت في شؤون المنطقة في القرن التاسع عشر بحجة حماية "الأقليات"، فتدخلت فرنسا لحماية الموارنة، وروسيا لحماية الروم الأرثوذكس، وبريطانيا لحماية الدروز والبروتستانت، ولا يزال بعض هذه الدول يتصرف حسب مفهوم الأقليات هذا. ونشهد اليوم المقاربة هذه نفسها، حين تدعم إيران الشيعة، وتركيا السُنّة، وغير ذلك من تدخلات خارجية تفاقم المشكلة بدلاً من حلها.
مقاربة أخرى يعتمدها البعض، تتمثل في ما يدعى "حوار الأديان". وقد جرى هذا الحوار عشرات المرات في دول كالأردن ولبنان والعراق وسوريا وغيرها، بل أدى العام 2004 إلى ولادة "وثيقة عمان"، التي توافق فيها عدد من رجال الدين السُنّة والشيعة البارزين على احتضان هذه المذاهب كافة، واعتبارها جزءاً من الإسلام وليس خارجه. لكن كل هذه المحاولات لم تنجح في إحداث التقارب المطلوب بين كل هذه الطوائف؛ لماذا؟
الحماية الخارجية أججت الصراع، فأصبحت الطوائف تنظر إلى الخارج لتأمين حمايتها، بدلاً من الاعتماد على مؤسسات دولها لضمان حقوقها. وحوار الأديان لم يحقق النتائج المطلوبة، لأنه بقي حواراً أكاديمياً نخبوياً بين بعض رجال الدين وأكاديميين، في معزل عن أطر الحكم القائمة، وبالتالي بقيت نتائج هذا الحوار محصورة في دائرة ضيقة لم يتردد صداها على أرض الواقع.
حان الوقت لكي نسمي الأشياء بمسمياتها. ففي غياب مفهوم حداثي للمواطنة، يسهل الحديث عن طوائف وأكثرية وأقليات، وتعظّم الهوية الطائفية الفرعية على حساب تلك الوطنية الجامعة، وينقسم الناس إلى "نحن" و"هم"؛ فتصبح "نحن" رديفة للصديق، و"هم" رديفة للعدو، فيما يفترض أن يكون الاثنان شركاء في وطن واحد.
لا ينبغي، إذن، قبول مبدأ الحماية الخارجية، لأنه يؤدي إلى تفكيك الأوطان. ولا مجال للحديث الجدي عن حوار الأديان من دون ربطه بالمواطنة الحاضنة -لا المستوعبة فقط- للتنوع. حين يطرح الموضوع في إطار المواطنة المتساوية للجميع، المحتفية بتنوع المجتمع، لا تعود الخلافات المذهبية ثانوية فقط، وإنما أيضاً مصدر قوة لمجتمع تعددي يحتضن الآراء والمذاهب كافة. وبهذا يغادر الحوار بين الأديان الإطار الأكاديمي البحت، ليسلط الضوء على معاملة الجميع على أساس أنهم مواطنون ومواطنات متساوون في الحقوق، بغض النظر عن أعدادهم أو مذاهبهم. لم يكن العالم العربي بحاجة أكثر من اليوم لعقود اجتماعية جديدة، تتم قوننتها من طريق دساتير جديدة تعترف بالمواطنة المتساوية الحاضنة للتنوع، بغض النظر عن طوائف الناس أو أصولهم أو آرائهم، رجالاً ونساءً، فعلاً لا قولاً، فتعطي الحماية المطلوبة للمجتمع من دوله، بدلاً من أن يطلب هذه الحماية من الخارج، أو يسلح البعض نفسه ضد إخوانه وأخواته.
تونس خطت خطوة مهمة في مجال طمأنة شرائح المجتمع كافة إلى نظم حياتها، فيما تحتدم المعارك والاضطرابات في مشرقنا العربي، لأن أحداً لا يريد الخوض في المفهوم الحقيقي للمواطنة.
وزير خارجية الاردن سابقاً |