التاريخ: آب ١٨, ٢٠١٥
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
الحالة اللبنانية في ضوء تحدّي التعايش السلمي بين الأديان - روجيه ديب
بعد سنوات طويلة من النزاعات، وعلى الرغم من الأعباء والصعوبات الهائلة التي يواجهها لبنان اليوم، يُقدّم هذا البلد الآن مثالاً حياً عن تعايش سلمي ومثمر محتمل بين الأديان والمذاهب المختلفة المنتمية إلى الدين نفسه. لذلك من الأهمية بمكان أن نفهم الأسباب..

1. حال سببان دون أن يغرق لبنان في دوامة الأزمات التي تجتاح المنطقة حالياً:

أ - على المستوى الداخلي، تَقدَّمنا أكثر، كأمّة، على طريق استيعاب الدروس في كيفية تجنُّب النزاعات الأهلية. في الواقع، لقد تعلّم قادتنا الحاليون، من الحرب الأهلية التي اندلعت في السبعينات، أن كلفة مثل هذه الحروب باهظة جداً؛ لذلك اتّفق الأفرقاء السياسيون على تشكيل حكومة وحدة وطنية لتقاسم السلطة، إذ تبيّن أن التطورات الإقليمية المخلّة بالاستقرار ستستمر لوقت طويل؛ وكذلك توصّل الأفرقاء المعنيون إلى اتفاق ضمني بأن من يصرّون على القتال ضد جهة أو أخرى في الحروب الإقليمية، عليهم ألا يخوضوا معاركهم داخل لبنان؛ فضلاً عن ذلك، أثبتت القوى الأمنية اللبنانية، بمؤازرةٍ من دعم دولي جدّي، عن قدرة على الضرب بيدٍ من حديد في مواجهة العناصر التي أرادت نقل النيران السورية إلى لبنان.

ب - السبب الثاني هو أن العامل الخارجي المهم جداً صبّ هذه المرة في مصلحة السلام الداخلي في لبنان بدلاً من إثارة الاضطرابات.

تعاني بلدان عدة متعددة الدين أو الإثنية من هشاشة شديدة إزاء محيطها المباشر، إذ إن مكوّناتها تشكّل عادةً امتداداً للمجتمعات من حولها؛ لذلك من المهم على الدوام تحليل ما يحدث داخل هذه البلدان وحولها؛ في السبعينات، دفع لبنان ثمن وجوده بجوار إسرائيل والمقاومة المسلّحة الفلسطينية، إذ رحّب بعض اللبنانيين بدخول هذه المقاومة إلى لبنان في حين رفضه البعض الآخر... الأزمة اليوم هي بين القوى الإقليمية المسلمة وأتباعها المحليين الذين يخضعون للتنظيمات الأم في سوريا والعراق، وليس لبنان...

2. على المستوى الأكثر جوهرية، يستند التعايش في لبنان إلى أسس أكثر رسوخاً بالمقارنة مع بلدان المشرق الأخرى؛ فهو يقوم على خمس ركائز:

أ - التقليد والتجربة العريقان في التعايش الاجتماعي والتجربة الأعرق في بناء الدولة:

تمكّن الأمراء في جبل لبنان من إرساء تعايش حقيقي على امتداد ثمانية قرون تقريباً؛ ثم شكّلت تجربة المتصرفية منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى مطلع الحرب العالمية الأولى، حقبة من الحكم الذاتي المستقل بوجود حاكم عثماني مسيحي غير لبناني؛ بعد ذلك، حلّت مرحلة ما قبل الاستقلال التي استمرت 25 عاماً في ظل الانتداب الفرنسي؛ أي في المجموع نحو قرن من الاستقلال الذاتي الحقيقي ولو بمؤازرة من الآخرين، وتجربة شبه كاملة في بناء الدولة قبل الاستقلال. ثم شهدت السنوات الثلاثون الأولى بعد نيل الاستقلال في العام 1943 تعزيز الديموقراطية والازدهار الاقتصادي حتى عام 1975. بعد كل هذا الوقت المخصّص لبناء الدولة، أصبحت للبنان مناعة معقولة كي يواجه، بكثير من المعاناة والخسائر إنما من دون أن ينهار، الاضطرابات الشديدة التي شهدتها المنطقة منذ دراما فلسطين وما أعقبها من نزاع عربي-إسرائيلي لا يزال مستمراً، وظهور إيران قوةً إقليمية وما استتبع ذلك من ردود فعل، وأحداث 11 أيلول وتداعياتها، والتدخل الأميركي في العراق ثم استعجال الانسحاب ما دفع بالبلاد نحو الانهيار والفوضى، وصحوة التطرف الجهادي وتوسّعه على المستوى العالمي، والربيع العربي والحرب الأهلية في سوريا... حقاً، إنه لمحيط بائس يتواجد فيه لبنان!

ب - يتمتع لبنان بحس من الانتماء وبقيم مشتركة يلتزم بها اللبنانيون من جميع الطوائف ويعتزّون بها:

- الحريات الفردية، والمستويات التعليمية المتقدّمة، وتعدُّد اللغات والثقافات، والتسامح واحترام خصوصية كل طائفة، وتنمية الاقتصاد بدعمٍ من المغتربين اللبنانيين الذين يعملون بكد في الخارج ويحافظون على رابط قوي مع بلدهم الأم، والديموقراطية التوافقية حتى لو كانت في حدّها الأدنى.

- قيمة مضافة جاذبة وملموسة، وخصوصية بالنسبة إلى المنطقة المحيطة بنا، حيث يشعر المسلمون اللبنانيون بأنهم أقرب بكثير إلى اللبنانيين غير المسلمين منه إلى معظم أبناء دينهم في المنطقة. تأسّس لبنان حول فكرة الحريات الشخصية، والمساواة، وتقاسم السلطة ديموقراطياً، وليس كوطن لمؤسسيه أي المسيحيين.

ج - تضمن بنية نظامنا السياسي، على الرغم من الشوائب الكثيرة التي تعاني منها، تقاسم السلطة الفعلي، وتعكس بطريقة منطقية الواقع التاريخي والرغبة في، والسعي إلى التعايش بين جميع اللبنانيين.

د - يتبنّى قادتنا الدينيون صورة معتدلة عن دينهم وينشطون في العمل على ترويجها، ويشكّلون صمام أمان معنوياً في وجه التطرف السياسي أو الديني.

هـ - يتقن معظم قادتنا السياسيين فن إدارة التناقضات والالتباسات، وما يترتب عنه من حوارات وتسويات سياسية ضرورية.

3. لدى النظر إلى المستقبل، أرى خمسة تحدّيات داخلية وثلاثة مخاطر إقليمية فعلية تُهدّد لبنان:

أ - التحديات الداخلية:

- من النتائج الطبيعية للتنوّع حدوث انقسام فئوي وسياسي في المجتمعات المتنوّعة؛ لكننا شهدنا، منذ انتهاء الحرب الأهلية عام 1991، على شخصنة شديدة للقيادة السياسية؛ لقد تحوّلت المهارة الضرورية لبناء التسويات أداةً لتجاوز الدستور والروزنامة الديموقراطية سعياً خلف مآرب شخصية وطائفية. الشغور الحالي في منصب رئاسة الجمهورية عارض مؤسف وخطير من عوارض هذا المرض.

- في بلدان التنوّع مثل لبنان، تعاني معظم الحكومات المركزية من البطء في اتخاذ القرارات، كما أن قدراتها، وأحياناً كفاءاتها، محدودة نوعاً ما في إدارة اقتصاد ضعيف يرزح تحت وطأة عجوزات قوية وديون مرتفعة جداً ناجمة عن السلوك المتهوّر لمعظم القادة السياسيين خلال الأعوام الأربعين الماضية. في الوقت نفسه، هذه البلدان بالذات أكثر هشاشةً إزاء الأزمات الاقتصادية، لأنها غالباً ما تتحوّل نزاعاً بين المكوّنات المختلفة؛ على النقيض، يشكّل الاقتصاد والازدهار القويان اللذان يتّسمان بالتوزيع العادل، عنصرَين أساسيين للتماسك الوطني (مثال على ذلك سويسرا وبلجيكا).

- يحتاج لبنان إلى بناء قاعدة وطنية أوسع لدعم الحياد الضروري جداً من أجل سلامه الداخلي؛ لقد أُنجِزت محطة مهمة من خلال إعلان بعبدا، في عهد الرئيس السابق ميشال سليمان، بيد أن بعض الأفرقاء عادوا فتراجعوا عن موقفهم الداعم له.

- علينا أن ندير بصورة جدّية، إنما بحذر، تطوير المنظومة الحكومية نحو مزيد من اللامركزية، وتدريجاً نحو دولة أكثر علمانية، على الأقل على مستوى الحكم المركزي.
- ينبغي على لبنان أن يعالج الخلل الداخلي في التوازن، والنتائج الخارجية المترتبة عن تحوّل "حزب الله" لاعباً "خارقاً" على الساحة الإقليمية وليس المحلية فقط.

ب - عوامل الخطر الإقليمية:

- التسويات الجيوسياسية الإقليمية التي يمكن أن تُحدث خللاً في التوازن الداخلي، كما حدث عندما كان ثمن استيعاب سوريا السماح لها ببسط نفوذها على لبنان، أو التأثير الجغرافي للحرب السورية التي تفرض على لبنان تجاوراً متنافراً بين الأقليات بحكم الأمر الواقع، بما يتعارض تعارضاً تاماً مع تاريخ البلاد وهدف التعايش مع الجميع على قدم من المساواة.

- تفشّي التشدّد في سوريا، وهو خطر فتّاك مع تداعيات محتملة على جزء من الشعب اللبناني، لا سيما في الشمال.

- سوف يؤدّي مكوث اللاجئين السوريين والفلسطينيين في المدى الطويل، إلى إحداث خلل أساسي في التوازن الديموغرافي اللبناني الذي يعاني أصلاً من الهشاشة، ما يتسبّب أكثر فأكثر بإضعاف وجود المسيحيين ودورهم.

4. في ما يتعلق بآفاق لبنان الإقليمية:

أ - لدى لبنان مصلحة حيوية في السعي إلى المساهمة في رسم معالم محيطه المباشر:

- على لبنان أن يروّج بفاعلية نسخته الخاصة من التعايش المثمر مع إسلام معتدل ومنفتح، وأن يؤدّي دوراً رائداً في المشاركة في رعاية المبادرات مثل إعلان عمان عام 2004 وإعلان الأزهر في القاهرة في كانون الأول 2014، ونشرها.

- السلام والعدالة للشعب الفلسطيني شرط لا غنى عنه من أجل تحقيق السلام الإقليمي، وإقامة علاقات أكثر سلمية بين العالمَين الغربي والإسلامي؛ إذا تمعّنا جيداً في المسألة، نجد أنه لمعظم قيادات التنظيمات الجهادية رابط عميق مع أحد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، بدءاً من عبدالله عزام الذي شارك في تأسيس تنظيم "القاعدة"...

- لا تزال سوريا والعراق في مرحلة تفكّك الدولة بعد الحقبة الديكتاتورية؛ إلا أنه علينا أن نتفادى، مهما كان الثمن، سيطرة الجهادية المتشدّدة والعنيفة على هذين البلدَين، وأن نبذل قصارى جهدنا لمساعدتهما على التوحّد من جديد وبناء هيكلية حكومية تتناسب مع إرادتهما في التعايش وبناء بلدٍ جامع، بدلاً من أن نفرض عليهما حلاً يتناقض مع وقائعهما والتطلعات الوطنية لمكوّناتهما المختلفة. في رأيي، إذا ظل العراق موحداً، ستبقى سوريا كذلك أيضاً، على الرغم من أن الهيكليات التي تترجم وحدتهما ستكون مختلفة: الاتحاد الفيديرالي في حالة العراق، والاستقلال الذاتي المناطقي اللامركزي وتقاسم السلطة المثبّت في حالة سوريا. بهذه الطريقة فقط، يمكننا أن نضمن العودة الآمنة للاجئين السوريين إلى ديارهم، فمعظمهم لن يعودوا إلى سوريا جهادية أو موالية لإيران!

- المصلحة الوطنية الأعلى بالنسبة إلى لبنان هي الانتقال من الديكتاتوريات التوسّعية التي تحيط بنا منذ استقلالنا، إلى محيطٍ من الدول الديموقراطية التي تعترف بتنوّعها وتتنظّم على هذا الأساس، في ظل قادة منتخَبين بحرية من الشعب وبطريقة شفّافة وديموقراطية، والتي تسعى إلى التعاون مع جيرانها الأصغر حجماً بدلاً من فرض سياسات الهيمنة عليهم. إذا اتّخذت الأحداث الدراماتيكية الراهنة هذا المنحى التفاؤلي، سيستعيد لبنان الأيام الذهبية التي عشناها منذ نيل الاستقلال عام 1943 حتى عام 1975، تاريخ اندلاع الحرب الأهلية المروّعة.

- على القوى الإقليمية أن توقف معاركها التي تخوضها بالوكالة، وتنتهج سياسات عدم التدخل في العراق وسوريا واليمن وليبيا، وإلا ستواجه خطر تحوُّل حروبها بالوكالة مواجهاتٍ إقليمية مباشرة. هذا هو الدرس الذي نتعلّمه من تاريخ البلقان في الحروب الأوروبية. المنطقة بحاجة ماسّة إلى معاهدة ويستفاليا خاصة بالشرق الأوسط، وإلا يمكن أن يتعرّض أكثر من بلد للتقسيم، مع ما يترتب عن ذلك من تداعيات خطيرة.

ب - بغية وقف هذه المذبحة، عدم التدخل ضروري إنما غير كافٍ؛ فنحن نحتاج في المدى الطويل إلى:

- مظلة وطنية كبرى للتعاون تجمع مختلف المكوّنات في هذا الجزء من العالم: شكل جديد من أشكال العروبة الثقافية، ومنطقة واسعة للاقتصاد والتجارة الحرة.
- خطة مارشال شرق أوسطية تُطلق حملةً من أجل تحديث الشرق الأوسط جغرافياً واقتصادياً وسياسياً واجتماعياً.

- التزام أوروبي حقيقي: مرحلة الازدهار الأفضل التي عرفها الشرق الأوسط في تاريخه كانت منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى الربع الأول من القرن العشرين، عندما انخرط الأوروبيون والعرب والعثمانيون في التبادلات التجارية والثقافية، وبنوا مدناً عصرية رائعة ومتعددة الثقافة مثل بيروت وإزمير والإسكندرية. تشكّل مبادرة الاتحاد الأوروبي المعروفة بـ"الاتحاد من أجل المتوسط" حاجة ماسة أكثر من أي وقت آخر.

- أخيراً وليس آخراً، ينبغي على المجتمع الدولي، من طريق مجلس الأمن، أن يتدخّل بحزم أكبر في مواجهة قادة الدول المتهوّرين الذين يجرّون بلادهم، بسبب فسادهم ورفضهم مغادرة السلطة بطريقة ديموقراطية، إلى الفشل، لأن السلوك المتهور يتسبّب، في هذا العالم المعولَم، بانتقال الفوضى والدمار إلى بلدانٍ ومجتمعات أبعد.

باحث - وزير سابق
ترجمة نسرين ناضر