التاريخ: آب ١١, ٢٠١٥
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
العدالة الانتقالية كجزء من الحل - كارمن أبو جودة
الأزمات السياسية المتكررة وغير القادرة على اجتراح الحلول من داخل النظام السياسي اللبناني système de règulation تبين ليس فقط اشكالية هذا النظام بل ايضاً أزمة الثقة بين اللبنانيين، في وقت نتذكر او نستذكر مرور 40 سنة على بداية حروبنا الأهلية عام 1975.أربعون سنة ولم نفهم ولم نتعظ.

في دراسة ميدانية أجراها "المركز المركز الدولي للعدالة الانتقالية" ونشرها أواخر 2014 حول تجارب الناس خلال حرب 1975-1990 وتطلعاتهم في ما يتعلق بالحقيقة والعدالة، خلص المشاركون في مجموعات التركيز التي عقدت في أحياء مختلفة من بيروت الكبرى، الى ان "الحرب لم تنته بعد". ومن أبرز نتائج الدراسة افتقاد هؤلاء للثقة بمؤسسات الدولة وبالطبقة السياسية وشعورهم، على اختلاف انتماءاتهم الدينية والمناطقية والعمرية والنوع الاجتماعي، بالغبن والتمييز على أساس الطائفة.

انتهت الحرب عام 1990 على تسوية سياسية وتمّ تعديل الدستور وأعادة توزيع الحصص الطائفية على القاعدة- الاسطورة "لا غالب ولا مغلوب"، تبعه قانون عفو عن الجرائم التي ارتكبها أمراء الحرب بحق الضحايا اللبنانيين العاديين مستثنياً تلك التي كانت ضحيتها قيادات سياسية ودينية أو ديبلوماسية. جرى الكيل بمكيالين: ضحية درجة أولى وضحية درجة ثانية. انتهت الحرب من دون محاسبة المرتكبين وبدأت معها أو استمرت معها ثقافة الافلات من العقاب من أعلى الهرم الى أسفله. فكيف نتعجب من استمرار العنف بكل أشكاله وغياب المحاسبة الفعالة في معظم الجرائم من انفجارات الى اغتيالات حصدت مئات الضحايا لم يسأل عنها ولم ينصفها أحد. هنال حاجة ملحة الى اصلاح مؤسسات الدولة من قضاء وأمن وصولا الى النظام السياسي والقانون الانتخابي وتطبيق اللامركزية الادارية، وهي اجراءات ضرورية من أجل مواجهة الأزمات السياسية وتأمين الاستقرار ومحاسبة المجرمين وتجديد الطبقة السياسية الحاكمة.

آن أوان اعادة النظر في علاقات اللبنانيين في ما بينهم وفي العقد الاجتماعي الذي يربطهم بعضهم ببعض وفي التركيبة السياسية التي تقيّدهم والتي برهنت فشلها في توحيدهم حول مفهوم واحد للدولة والمواطنة، ونظام أكد عجزه عن حلّ أزماتهم المزمنة والمتكررة. لقد أصبح من الضروري أن نفهم وان نحلل ما الذي يحدث لبلدنا ولنا وما هي أسبابه العميقة والبنيوية. لا بدّ من العودة الى أسس وجذور وأسباب أزماتنا التاريخية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية والنفسية ونتائجها الكارثية التي لم تتم مواجهتها ومعالجتها، والتي تفسر في جزء كبير منها عدم تمكن اللبنانيين من الخروج من مآزقهم من دون اللجوء الى وسطاء خارجيين. وقد يساعد أيضا في فهم أسباب عدم تجدد القيادات السياسية التي تحتفظ بقاعدة شعبية تؤمن ديمومتها من خلال المبايعة أو الانتخاب. علينا ان نكسر هذه الحلقة المفرغة التي تسجن اللبنانيين والتي تديرها طبقة سياسية فاشلة ومسترهنة وفاسدة تعجز عن حلّ مشاكلهم وأزماتهم وحتى الحدّ الأدنى من العيش الكريم لفئات واسعة منهم. هناك شرخ عميق بين القيادات وغالبية المواطنين رغم بعض المظاهر الزائفة. فالشعب تمّت قولبته في بنية لا تسمح له بالمحاسبة والمساءلة في وقت أجمعت فيه الطبقة السياسية، وخصوصاً تلك التي لعبت دوراً أساسياً في الحرب، كما حلفاؤها في الحكم، على عدم المحاسبة وتنقية الذاكرة. طبقة تحمي نفسها بنفسها.

منذ انتهت الحرب تسلم الحكم سياسيون وقيادات لعب بينهم النظام السوري دور مشعل النار والاطفائي والوسيط في آن معا، وحافظ معه على مظاهر الاستقرار. وحين خرجت قواته وأجهزته من لبنان ارتبك اللبنانيون وعجزوا عن حل أزماتهم الا باللجوء الى الوسيط الخارجي كما في تسوية الدوحة عام 2009. وقد بيّنت الأزمات السياسية في السنوات الأخيرة التي دفعت مجلس النواب الى التمديد لنفسه مرتين في أقل من سنتين وحالت دون انتخاب رئيس للجمهورية، ان على اللبنانيين ان يفكروا جدياً ومن دون مزايدات واتهامات متبادلة عقيمة، عن جذور مشاكلهم المستعصية. ما هي المشكلة؟ وما هي الحلول الجذرية وليس الموقتة على شكل اتفاق الدوحة او حتى اتفاق الطائف؟ تسويات موقتة يرعاها وسطاء عرب او غربيون لا تلبث الظروف الخارجية او الداخلية ان تطبقها بشكل جزئي أوتنسفها او تتحداها حتى تلغيها.

لا بدّ من حوار وطني رغم كون هذا المصطلح اصبح مبتذلاً وفقد معناه لأنه صار حكرا على طبقة معينة ولا حيّز للناس فيه وكأنه احتكار لا يمكن الآخرين اللجوء اليه والاستمتاع به. أصبح من الضروري ان نتحاور ونتصارح ونشخّص أمراضنا وعللنا ونتفاهم ونفكر معاً حول الحلول الجذرية. علينا ان نعود الى الوراء، الى الماضي البعيد والقريب لنفهم ما الذي يحدث لنا وكيف يرث أولادنا وأحفادنا بلدا يدخل تكراراً ومراراً في أزمات وحروب وفوضى وفساد وحقد وكراهية تغلق القلوب والعقول. وكيف يرثون ذاكرة مليئة بالثقوب وثقافة النكران والصمت التي جعلت من كل اللبنانيين مجرمين وضحايا، بحيث أقفلت ملفات الحرب والعار على جروح لم تندمل.

هناك أولا أزمة الثقة بين اللبنانيين. ثم أزمة ثقة بين المواطنين ومؤسسات الدولة. 25 سنة مرت على انتهاء الحرب الأهلية ولم نتحاور ولم نتصالح . هل تصالحنا بعد حروبنا؟ هل اعترفنا بمعاناة عشرات الآلاف من ضحاياها؟ هل ساعدنا أهالي المفقودين والمخفيين قسراً على معرفة الحقيقة حول مصير أحبائهم؟ هل المصالحة والعودة الى الجبل حيث تمت مساواة الجلاد بالضحية حقيقية ومستدامة؟ هل أخبرنا أولادنا وأحفادنا ماذا فعلنا ببعضنا ولماذا؟ هل عبّرنا عن أسفنا واعتذرنا من ضحايانا؟ هل فكرنا كيف يمكن تفادي الحرب وكيف؟ هل سياسة النسيان والنكران والافلات من العقاب التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة منذ الانتهاء الرسمي للحرب ساهمت في الاستقرار والسلام الدائم والمصالحة الوطنية والاصلاح المؤسسي ؟

ان محاولة الاجابة عن كل هذه الأسئلة قد تساعدنا على فهم الكثير من مشاكلنا وأزماتنا. وقد تنير طريقنا كي نفهم موقف بعض الجماعات الطائفية اللبنانية وخوفها وهواجسها وتطرفها ولا عقلانيتها و"ضياعها" و"انتحارها" كما يقول البعض. العودة الى الماضي، الى حروبنا ومآسيها، الى ذاكراتنا وذكرياتنا المتوارثة جيلا عن جيل ودرس نتائجها ومحاولة معالجة آثارها بطريقة ناجعة وفعالة قد تكون احدى الوسائل لاجتراح الحلول بأنفسنا وتأمين مستقبل آمن في ظل دولة تحفظ حقوق الجميع.

مقاربة العدالة الانتقالية، من اجراءات قضائية (محاكمات جنائية لمحاسبة المسؤولين الأساسيين عن ارتكابات حقوق الانسان) ومبادرات غير قضائية (لجان حقيقة وتحقيق، برامج جبر الضرر وتدابير حفظ الذاكرة والاصلاح المؤسسي) قد تساعدنا بشكل كبير في تخطي الماضي ومواجهة نتائجه ومعالجة ملفاته العالقة لانتقال حقيقي ودائم الى السلام والاستقرار السياسي والتحول الى دولة ديموقراطية تحترم حقوق الانسان وتساوي بين مواطنيها في الحقوق والواجبات.

باحثة في العلوم السياسية – مديرة المركز الدولي للعدالة الانتقالية في لبنان