لا، ليست المرّة الأولى التي تتجرّع فيها ايران الكأس المرّة! وبايران نعني الثورة الايرانية التي انتهجت المواجهة أسلوباً في التعاطي الدولي، وبالكأس المرّة نعني الاتفاق النووي الموقع في 14 تموز الماضي في فيينا بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية ومجموعة 5+1.
هناك سابقة تعود الى سنة 1988 حين وافق الامام آية الله روح الله الخميني على وقف النار في الحرب التي نشبت مع العراق البعثي، تلك الحرب التي وصفها الامام الخميني ﺑأنها "هبة الهيّة"، تلك الحرب التي دارت بدعم غربي لصدّام حسين، لتستنزف دماء كل من الفرس والعرب. الى ان سلّم الامام المرشد بالأمر الواقع، معتبراً بأنها أصبحت حرباً عبثية، عندها صرّح للملأ أن وقف النار كان بالنسبة اليه أمرّ من "تجرّع كأس السم".
هل ساور اليوم الامام علي خامنئي الإحساس نفسه حين وافق على اتفاق فيينا المذكور؟ يعتقد البعض ان إيران حققت نجاحاً باهراً حين حصلت على حل توافقي مع مجموعة الدول 5+1، وذلك بعد سنوات طويلة من المفاوضات الشاقة. ولقد هلّل الشارع الإيراني بكل اطيافه ومشاربه عندما وصلهم خبر التوقيع النهائي الذي يرفع العقوبات التي نغّصت حياة المجتمع اليومية وخنقته اقتصادياً، ففقد بهاءه ومواهبه الخلاّقة. وما همّ ان لم تشارك الضاحية الجنوبية في بيروت بهذه الهيصة وهي التي كانت دائماً تعبّر عن فرحها وحزنها بشكل لافت عند كل مناسبة.
يجوز القول عند هذا الحد أن الديبلوماسية الإيرانية حقّقت انجازاً يشهد له، انما هذا لا يعني أن الثورة في إيران قد حقّقت انتصاراً. بما يعني ان الجناح المعتدل والعقلاني والواقعي في إيران ربح الجولة ضد المزايدين والأصوليين والمتشددين. اذاً هو انتصار فريق إيراني على آخر وليس انتصاراً ايرانياً على الشيطان الأكبر! لا بل على العكس، فان الاتفاق شكّل هزيمة لسياسة ايران المعارضة دون هوادة للهيمنة الأميركية ولأزلامها من أنظمة المنطقة، هذه السياسة التي تعود بجذورها الى ساعة اعتلى الامام الخميني موقع كسرى أنوشروان.
وهذا مما يجعلنا نتساءل عن مغزى خطاب السيّد حسن نصرالله الأخير: "ايران ما بعد الاتفاق النووي هي الهاجس الكبير في المنطقة وفي مقدمة هذا الهاجس يأتي حزب الله، والتأكيد الأميركي الأخير على وصف حزب الله بالمنظمة الإرهابية لا يقدّم ولا يؤخّر... تعاقبنا الولايات المتحدة والتي ستبقى الشيطان الأكبر قبل وبعد الاتفاق النووي". هذا الكلام حمّال أوجه. فهناك أجواء لا يستهان بها تناهض هذا الاتفاق في المعسكر الممانع وتعرف أبعاد نتائجه على ساحة الصراع في بلاد الشام أي عربستان!
انما الأخطر هو ما جاء في صحيفة "كيهان" الإيرانية الناطقة باسم المرشد الأعلى وهي الصحيفة الأولى والأكثر انتشاراً في ايران، وقد نعتت الاتفاق النووي بعد أيام من التوقيع عليه بأنه هزيمة وتنازل مطلق عن أهداف المشروع النووي الإيراني، وأنه مخيّب للآمال واعتبرت أن بيان الخارجية الإيرانية "المختصر" يتناقض مع نص الاتفاق الموقع في فيينا، وتساءلت كيف نفسّر أن بيان الخارجية الإيرانية المقتضب لم يذكر بعض التنازلات؟ اذاً هناك روايتان: رواية مختصرة للخارجية الإيرانية وهي للاستهلاك الداخلي المحلّي على ما يظهر في مقابل واقع الحال المنبثق من النص الأصلي المعتمد دولياً. ووصفت صحيفة "كيهان" البند الذي يسمح بتفتيش المنشآت والقواعد العسكرية الإيرانية بالفضيحة. وأضافت أن "الاتفاق النووي فتح الطريق أمام وكالة الطاقة الذرّية لتفتيش المنشآت العسكرية الإيرانية السرّية. وهنا بيت القصيد: هل ستنتهك السيادة الايرانية عند كل تفتيش من قبل الوكالة؟ هل لنا أن نتذكر دور المفتشين في عراق صدام حسين حينما كانوا يبحثون عن أسلحة الدمار الشامل؟ ماذا لو لم تمتثل ايران لتعليمات وكالة الطاقة الذرّية؟ ماذا لو انتفضت لكرامتها؟ هل سترضى بأن تنزل بها العقوبات مجدّداً كما نصّت بنود الاتفاق، في كل مرّة تتقاعس عن تأدية موجباتها التعاقدية؟ وكيف سيتعامل مع الموضوع كل من رئيسي الجمهورية روحاني (الذي يلعب دور بزرجمهر التاريخي) أو وزير الخارجية جواد ظريف؟ ألا يحمل الاتفاق النووي المكرّس بذور تفرقة وفتنة وحرب أهلية؟
لن تكون هناك قنبلة نووية شيعية في تصرف الفاطمية السياسية، في حين ان لإسرائيل قنبلة يهودية، ولباكستان قنبلة سنّية، مقابل الهند التي تملك القنبلة الهندوسية، ناهيك عن القنابل المسيحية والكونفوشية (الصين). رغم السعي الحثيث لن تتمكن منظومة ولاية الفقيه من دخول نادي اللاعبين النوويين في حين كانت على قاب قوسين أو أدنى من التربّع على كرسي الأقوياء.
مهما زعمت او انكرت، فإن إيران كانت تسعى للحصول على السلاح النووي. وكل كلام مختلف هو للتعمية والتضليل. الا ان طهران اقتنعت أخيراً أن المشاريع النووية التي أطلقتها لن يكتب لها النجاح الا اذا جاءت ضمن أهداف سلمية وتحت سقف معيّن. وجاء الاتفاق المشؤوم في نظر بعض المتشددين يلوي ذراع أحفاد "الأكاسرة". وهذه بعض بنوده:
1 – خفض عدد أجهزة الطرد المركزي من 20000 الى 5060 ليس الاّ.
2 – خفض مخزون إيران من الأورانيوم بنسبة 98 في المئة، فلن يتجاوز 300 كلغ لفترة 15 سنة مقبلة.
3 – متابعة تطوير المشروع النووي في محطة ناطانز دون سواه في حين يحظّر القيام بأي نشاط في محطة فوردو لمدة ثماني سنوات. وستتحول أجهزة الطرد المركزي في محطة فوردو المذكورة وعددها 1044 الى الاستعمال السلمي في مجال الزراعة والصناعة والطب.
4 – ناهيك بمركز آراك الذي سيعاد تركيبه لكي لا يشكّل خطراً في انتاج البلوتونيوم.
5 – الخ..... من التنازلات التي لا سبيل لتعدادها.
6 – وأخيراً وليس آخراً، الرقابة وبشكل مستمر ودائم من قبل وكالة الطاقة الذرية التي تملك الحق في تفتيش المواقع والمنشآت العسكرية.
مقابل كل هذا ستستعيد إيران مئة مليار دولار من الأموال المجمدة في الخارج ويحق لها بيع النفط الذي تستخرجه في الأسواق العالمية. فتكون البحبوحة الاقتصادية بعد سنين "المُحْلِ"، فيرتاح المجتمع المدني وينعم بالمواد الاستهلاكية، فيخلد نسبياً الى السكينة.
تخلّت ايران عن دور البطولة واعتمدت الرفاهية وهذا أقل الايمان. فما من ثورة الاّ وتبلغ مداها والناس يعشقون الحياة. هناك زمن للاستشهاد يليه زمن للاستقرار والازدهار. هل حلّت الرغبة بال KFC أم التمتع بالالكترونيات المتطورة محل الجهاد الهمايوني؟ لكن ماذا عن العقائديين والمتشدّدين والأنقياء. صحيح أنهم لا يمثّلون سوى 15 في المئة من الشعب، حسب بعض الاستطلاعات. الا ان السلاح بيدهم وصفوفهم متراصّة وعقيدتهم ثابتة. هل يمكنهم أن يعيدوا عقارب الساعة الى الوراء! عندها الويل لمن تورّط في المفاوضات!
محام واستاذ جامعي لبناني |