عشت في المملكة المتحدة في مطلع حياتي حيث النظام ملكي بدستور غير مكتوب، الملكة تملك ولا تحكم ورئيس الوزراء هو الأول سياسياً، بينما العرش يتفرغ للمسائل البروتوكولية ومظاهر السيادة التي تعبر عن شخصية الدولة، وعشت في الهند أيضاً سنوات أخرى رأيت فيها الجمهورية البرلمانية حيث رئيس الجمهورية يملك ولا يحكم ورئيس الوزراء هو «دينامو» الحياة السياسية الذي يتحرك بلا توقف ويأتي بإرادة شعبية من خلال زعامته للحزب الفائز في الانتخابات النيابية التي يشارك فيها ما يقرب من سبعمئة مليون مقترع لهم حق التصويت في انتخابات تستمر ثلاثة شهور، وأدركت من التجربتين معاً (الملكة في لندن ورئيس الجمهورية في نيودلهي) أن كليهما هو الأول مراسمياً ولكن رئيس الوزراء بكل المعايير هو الأول سياسياً، ووقعت في غرام النظامين معاً، فرغم الاختلاف بينهما إلا أن التماثل قائم والتشابه واضح، فالبرلمان في النظامين هو القاسم المشترك لأنه القوة الفاعلة التي لا تعلوها قوة أخرى، فمجلس اللوردات ومجلس العموم في بريطانيا يماثلان «الراجيا صابها» و «اللوك صابها» في الهند.
وقد بلغ من روعة الديموقراطية الهندية أن رئيسة الوزراء الراحلة أنديرا غاندي سقطت في دائرتها الانتخابية وهي رئيسة للوزراء ثم عادت بعد أعوام قليلة بغالبية كاسحة، فالشعوب لديها حس دفين يعرف الغث من السمين، ولقد بهرتني بريطانيا عندما كانت السفارة المصرية توفدني في مطلع سبعينات القرن الماضي لحضور جلسات مجلس العموم من شرفة الاستماع فأرى عجباً وأدهش كيف تعبر القوى المتصارعة عن مواقفها بلا تردد ومن دون الوقوع في أخطاء التجريح أو الانزلاق إلى التدني في الخطاب السياسي، وفكرت في أمتنا العربية ودعوت الله أن أرى في بلادنا ذات يوم ما شهدته في هذين البلدين اللذين أمضيت في كل منهما سنوات عدة، وعندما عينت سفيراً لمصر في النمسا ومندوباً لها لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية أدهشني من جديد أن رئيس الجمهورية الذي كان ديبلوماسياً سابقاً من أمثال كورت فالدهايم وتوماس كليستيل وهو رمز للدولة يقوم بدور الحكم بين السلطات ويتدخل في الحياة السياسية في الوقت المناسب وعندما يستدعي الأمر ذلك، كما تابعت قبل ذهابي إلى فيينا الحملة التي شنها اليهود على رئيس النمسا فالدهايم وقتها والذي كان سابقاً أميناً عاماً للأمم المتحدة لفترتين متتاليتين، ولكن ذلك لم يشفع له أمام الهجوم الضاري عليه واتهامه بأنه كان مجنداً في الجيش النازي، أما المستشار النمسوي فهو بمثابة رئيس الوزراء في الدول الأخرى وهو رئيس الحكومة والأول سياسياً والأقوى نفوذاً، ولعلنا نتذكر في هذا السياق اسماً لامعاً من طراز برونو كرايسكي صاحب التأثير المباشر في قضية السلام في الشرق الأوسط والذي كان قريباً من الرئيس المصري الراحل أنور السادات. ويهمني الآن أن أطرح الملاحظات الخمس التالية:
أولاً: ليست العبرة في نظام ملكي دستوري أو جمهوري برلماني ولكن العبرة في مساحة الديموقراطية المتاحة مهما اختلفت المسميات، إذ إن الديموقراطية ليست مجرد أحزاب خشبية أو برلمانات رخامية. إنها قبل ذلك وفوقه مؤسسات شريكة في الحكم وتعبير عن إرادة الشعب الذي تنتمي إليه، فكم من دول اصطنعت المجالس والمؤسسات وسميت فيها الأحزاب ولكنها في الواقع أبعد ما تكون عن الديموقراطية الحقيقية التي تحتاج إلى مناخ ليبرالي وبيئة حرة، فالعبرة دائماً في الجوهر وليست في المظهر.
ثانياً: إن الانقلابات العسكرية والتغييرات السريعة في بعض النظم تقتل بالضرورة المعايير التي كانت سائدة والسلطات التي كانت قائمة، لذلك فإنه يتعين على الجميع أن يدركوا أن التربية السياسية هي المدخل الطبيعي والوحيد للديموقراطية الحقيقية، ولعل جزءاً كبيراً من مشكلات المشهد العربي نابع من غياب تلك التربية وضعف الكوادر السياسية المتمرسة بالعملين البرلماني والحزبي، فضلاً عن شيوع الفساد السياسي وضعف البنى الفكرية لمؤسسات الدولة. ولم نسمع عن مجتمع ناهض ومستقر في غياب الحريات العامة والفهم الصحيح للوظيفة الديموقراطية. إننا ننظر دائماً إلى المهرجانات السياسية والمناسبات الاحتفالية ونغفل جوهر عملية المشاركة المطلوبة حتى يكون المجتمع سوياً والدولة راسخة الأركان.
ثالثاً: إن أهمية النظامين (الملكي الدستوري والجمهوري البرلماني) هي أن كليهما يفتت مفهوم «الفرعون الأوحد» الذي عرفناه كثيراً في تاريخنا الطويل، وقد جاء علينا حين من الدهر تحدثنا فيه عن التقاليد الإسلامية في الحكم ولكن ثبت في النهاية أنها كانت عملية استغلال للدين وصولاً إلى مواقع معينة في الدولة السلطوية القائمة على القهر وإدمان الاستبداد، ولم يعد هناك مناص من الاعتراف بأن المستقبل مرتبط ارتباطاً لزومياً بالانفتاح السياسي والإيمان بحرية الفرد من دون الإخلال بمصلحة الجماعة والتركيز على الديموقراطية باعتبارها السبيل الوحيد للخلاص من الحلقة الشريرة للفساد والاستبداد معاً وإعلاء حقوق الإنسان واحترام كرامته لأنه خليقة الله في الأرض واضعين في الاعتبار أن الأمة في النهاية هي مصدر السلطات.
رابعاً: إن السياسة الخارجية لأي دولة ترتبط بقوتها الداخلية ومتانة اقتصادها واستقرار أمنها وإلا تحول الأمر إلى نداءات جوفاء كتلك التي حفلت بها نظم عبرت على تاريخ المنطقة ولم تترك بصمات دائمة ولكنها ألقت في مجرى النهر بعدد من الشعارات الصماء، والشعوب بالمناسبة لا تقتات بالكلمات ولكنها تتطلع إلى الدولة العصرية القائمة على التعليم والبحث العلمي والازدهار الثقافي.
خامساً: إن الديموقراطية البريطانية العريقة تعتمد على دستور غير مكتوب، وفي المقابل فإن هناك عشرات الدول ذات الدساتير المكتوبة ولكنها لا تلتزم بمادة فيها ولا تحترم سطراً منها، فالإيمان الحقيقي هو جوهر العملية الديموقراطية والذي يوجه مسارها نحو الأفضل دائماً.
سادساً: إن العبرة مرة أخرى ليست بالملكية الدستورية أو الجمهورية البرلمانية ولكنها تتوقف على المناخ العام الذي تجري فيه ممارسة حياة سياسية صحية، فدعنا نتأمل التاريخ العربي الإسلامي وكيف أن الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز قد حمل لقب «خامس الخلفاء الراشدين» رغم كل ما سبقه وما لحق به من حكام كانوا أبعد ما يكونون عن الرشد والصلاحية، فالمهم في النهاية هو من الذي يصنع القرار ويقود سياسة البلاد. إن الأمر يحتاج دائماً إلى ترشيد جهاز الدولة، برلمانية كانت أو رئاسية، ملكية أو جمهورية، حتى تستقيم الأمور وتسعد البلاد والعباد.
سابعاً: إن لكل دولة ظروفها ولكل قومية خصائصها والنظام الذي يصلح في الولايات المتحدة الأميركية قد لا يصلح في دولة أفريقية صغيرة أو آسيوية بعيدة، فالعبرة كانت ولا تزال في معيار شخصية الشعوب وتقاليدها الراسخة وميراثها السياسي، إذ ليس صحيحاً أن هناك نظاماً سياسياً يصلح لكل زمان ومكان و «المدينة الفاضلة» لم يعد لها وجود و «اليوتوبيا» أصبحت خيالاً لدى من كتبوها ومن قرأوا عنها، لذلك فإن تصدير النظم بل وفرض الديموقراطية هما من الأمور المستحيلة، وبالنظر إلى العراق حالياً، على سبيل المثال، حيث زعم الأميركيون عند غزوه أنهم سوف يقدمون النموذج الديموقراطي للعالم العربي فانظر كيف هو الآن. هذه أمور تنبع من ذات الأمم وروح الشعوب ولا تفرض عليها قسراً ولا تأتيها استيراداً، لذلك يجب أن يكف الغربيون ودعاة الديموقراطية عن الحديث المجرد، فحتى «حقوق الإنسان» بحدها الأدنى تختلف من مجتمع إلى آخر، وكان أستاذي للدكتوراه في جامعة لندن البروفيسور الراحل فاتيكيوتيس يزعم دائماً أن الإسلام مسؤول عن ضعف الديموقراطية في العالمين العربي والإسلامي وكان يقول لي مستفزاً أن لديكم «نظرية في الشورى» لا تستطيعون تطبيقها وفي الوقت ذاته ترفضون تطبيق الديموقراطية الغربية، فمن أين يأتيكم التقدم سياسياً؟ وهو قول مردود عليه بنماذج ديموقراطية في دول إسلامية تدحض نظرية أستاذي رحمه الله.
هذا طواف سريع حول طبيعة نظم الحكم وديناميات السلطة في عالمنا المعاصر، لا نستطيع أن ندعي أن أحدها هو الأمثل أو أن غيرها هو الأفضل فلكل بلد ظروفه ولكل شعب طبيعته ولا توجد في التاريخ الإنساني طبعة واحدة لكتاب الحياة السياسية الناجحة، وحتى كتاب «الأمير» لميكيافلي يصبح هو الآخر «روشتة» عامة ووصفة لا أخلاقية لتبرير الاستبداد وتصوير الغاية هدفاً في حد ذاتها بغض النظر عن الوسائل المؤدية إليها. نعم تستهويني الملكية الدستورية وتشدني الجمهورية البرلمانية ولكن ذلك لا يكفي وحده للحديث المطلق عن هذين النموذجين وكأنهما واحة للأمان أو أرض للأحلام.
* كاتب مصري |