التاريخ: تموز ٢٦, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
لبنان: دوامة إعدام الآخر وعقاب الذات - سامر فرنجية
لم تكن جريمة قتل جورج الريف الأولى من نوعها، ولن تكون الأخيرة في بلد تغلغل فيه العنف ودخل ما سمّاه نادر فوز «عصر التوحش». ففي الآونة الأخيرة، قتل المختار مواطناً في بعلبك، والجار جاره انزعاجاً من صوت شاحنة. أما الزوج، فأفرغ ١٧ رصاصة في جسد زوجته، والقاصر قتل طفلاً أصغر منه ضرباً على الرأس. إشكال على أفضلية المرور أودى بحياة شاب، وتلاسن في مطعم أدى إلى إعدام آخر. يضاف مسلسل العنف الأسري وطقوس التعذيب في السجون وملحمة «طريق القدس يمرّ من الزبداني» إلى سلسلة الأحداث هذه لنتأكد أنّنا دخلنا عصر إعادة الإنتاج الميكانيكي للعنف. في وضع كهذا، يُستغرب أنّ يُستفزّ أحد نتيجة عملية قتل إضافية.

لكن الجريمة الأخيرة استفزّت المشاعر وصدمت مجتمعاً بدا وكأنه استسلم لعنفه أو تصالح معه. ربّما لأنّ هذه الجريمة لا تنتمي إلى العنف الأسري الذي بات «مقبولاً»، وليست من طقوس القتل في الريف الذي تحوّل موضوع مزاح، وليس ثمة مغزى سياسي لها قد يبرّرها، ما يحوّلها جريمة نموذجية. فهي عنف ينبع من مسألة السير، آخر مشترك يجمع بين أفراد هذا المجتمع، ما أضفى عليها طابع الفعل الجامع للمجتمع بأكمله، هذا إن لم تكن لحظة عابرة تكسر مع سيرورة الانحلال العام.

الضحية مطلقة والجلاد مطلق، وعلاقتهما مطلقة. أب لأربعة أطفال يُقتل على يد مجرم ذي سوابق لأسباب سخيفة وبوحشية مروّعة. نفى المجرم أنّه كان تحت تأثير المخدرات أثناء الجريمة، ولم يُبد أي ندم على فعله. ليست هناك أسباب تخفيفية، بيولوجية أو إنسانية، هكذا أكمل طريقه بعد العملية، فـ «شرب العصير وأكل الشوكولا في متجر مجاور من دون ندم، ثمّ توجّه إلى منزله ونام ميّت الضمير». إنّه الشرّ المطلق الذي يواجه الضحية المطلقة في جريمة لا يمكن تبريرها (هذا إن لم يستعن طارق يتيم بمحامي ميشال سماحة).

إنّها جريمة نموذجية طرحت مأزقاً على الإجماع اللبناني، لن يشفيه إلاّ الإعدام القرباني. فهبّ العنفوان اللبناني، وطالب بالثأر باسم «مجتمع الناس الضعاف، في حالة حرب». طالب آخر رئيس لجمهورية لبنان بالإعدام ولحق به أول مرشح لهذه الرئاسة. لاقاهم «تجمع عائلات بيروت» الذي استنتج أن عنفاً كهذا لا يجابه إلاّ «بعنف الدولة الصارم». أما زوجة الضحية، فدعت إلى «الاقتصاص من الجاني في الشارع نفسه الذي قتل فيه جورج أمام أولاده». فالإعدام لم يعد عقاباً قانونياً، مفاده ردع الآخرين، أو ضرورة للهروب من فساد السياسيين وسجونهم، بل أصبح عملاً قربانياً يراد منه إعادة الأمور إلى طبيعتها بعد انتهاك اليتيم للسلم الأهلي. الضحية ليست فقط المقتول، بل «هناك ضحية كبيرة هي المجتمع»، وفق المحامي زياد بارود، كون «الجريمة تخطت الفاعل والضحية لتشمل أزمة الأمن والقضاء».

غير أنّه سرعان ما تبيّن أنّ الإعدام لن يفي بغرضه القرباني. فكما أشار البعض، اليتيم لم يكن دخيلاً على المجتمع اللبناني، بل نتيجة فساده الذي يمتدّ من سياسييه إلى رجال أعماله وممولي مجتمعه المدني. هذا الفساد ليس محصوراً ببعض الأفراد، بل يمتد عبر الانتخابات، ولو أُجّلت، إلى الجميع. هذه لعنة الديموقراطية التي لا تسمح بلوم الحاكم من دون ناخبيه. وصدمة المارة الذين لم يتدخّلوا ليست إلّا إشارة إلى الذنب العام الذي أنتجته هذه الحادثة.

من «كلنا جورج- الضحية» إلى «كلنا طارق- الجلاد»، انقلبت الرواية التي تربط المجتمع بلحظة ضعفه الخارجة عن «النظام» مع المجتمع بلحظة انتماءاته المتعددة لهذا «النظام». وليس مستغرباً في ظلّ دوامة العقاب والذنب هذه أن يتحوّل مطلب إعدام الآخر إلى مطلب عقاب للذات، وتخرج أصوات، كصوت ابراهيم الأمين، تطالب بـ «انقلاب دموي لأجل لبنان (...) يجعل الرعب حقيقياً ومانعاً الناس حتى من الاعتراض همساً». قد يكون اقتراح كهذا جذاباً إذا أدّى إلى منع مقالات صاحبه، غير أنّه يفضح حقيقة طلب الإعدام، وهي أنّها طلب انتحار.

أظهرت الجريمة مأزق المجتمع والنظام وإصلاحهما في ظل غياب أي كبش فداء يمكن أن يوجّه أو يلجم الغضب المتزايد. وما زاد هذه الحقيقة وضوحاً كل تفسير طائفي للجريمة. فللحظة، اعتقد البعض أنّها تدخل في رواية مظلومية المسيحيين وحقوقهم التي يعتدي عليها أبناء المنطقة الأخرى. لكنْ سرعان ما تبين أنّها «صافية»، وإن كان المجرم مسيحياً بالعمادة كما أصرّ البعض على التأكيد. فالقاتل ابن زواج مختلط: إنه الحل السحري الذي حلم به دعاة إلغاء الطائفية كحل لها. ولتأكيد لا طائفية الجريمة، حضرت والدة اليتيم إلى مكان التحقيق ومعها قرآن وإنجيل، وهما نفسهما ما رفعته الجماهير في مظاهراتها السابقة. غير أنّ ماكينات المصالحة الطائفية لم تعمل كونها غير معنية بعلاقات أبناء الجماعة في ما بينهم.

بقيت جريمة صافية على «المجتمع» التعاطي معها. للطائفية حسنات تُفتقد عندما تقع جرائم «مدنية».

الجريمة ليست طائفية، لكنّها خارجة أيضاً عن السياقات التي يحبّ البعض حشر كل الجرائم فيها. فلم يجد وزير العدل تفسيراً للوضع الحالي غير لوم الأعداد الكبيرة من «النازحين السوريين الذين زادوا نسبة الملفات الجنائية»، ومن ثمّ «الدويلة داخل الدولة». هذا الكلام لم يقنع حتى القاتل، الذي أصرّ على طهارة فعله وخروجه عن أي سياق غير مسألة أفضلية المرور. فلا العنصرية أو السيادة أو الطائفية أو المخدّرات استطاعت تطويع فعل اليتيم، الذي بقي عصياً على أي تطبيع أو ترتيب، واضعاً المجتمع اللبناني أمام دوامة إعدام الآخر-عقاب الذات بلا مهرب أو مفر.

في وضع كهذا، قد يكون الإعدام مخرجاً صورياً لمجتمع بات حتى في غضبه مبتذلاً. لا عودة ممكنة إلى ما قبل الجريمة عبر الإعدام- الانتحار. هناك خياران باتا معروضين على هذا المجتمع. الأول إعادة ابتكار سياسة الثأر، وهي أنفع من الإعدام كأداة قربانية. أما الأخرى، فتحويل اليتيم إلى سجين-تحدٍ، يكسر دوامة إعدام الآخر وعقاب الذات، من خلال تحدي إبقائه في السجن على رغم الفساد. أما الإعدام، فبالإضافة إلى لاأخلاقيته، ليس إلاّ تأجيلاً لعملية الانتحار الكبرى التي بات لا مهرب منها.