يمكن للمرء أن يكون متدينا جدا وعلمانيا في نفس الوقت لأن العلمانية ليست موقفا من الإيمان الديني ذاته بل من العلاقة بين الدين والسياسية والسلطة. العلمانية ببساطة تطلب تحييد الدين أو رفعه عن الصراع السياسي، ولهذا السبب تحظى العلمانية بعداء وهجوم دائم من القوى السياسية الدينية التي يقوم وجودها ذاته على استخدام الدين أداة في الصراع السياسي على السلطة ولا تتردد بعض هذه الأوساط بوصم دعاة العلمانية بالإلحاد كما فعل بيان اشرنا له في مقال سابق وهو أثار جدلا يدفعني للكتابة عن العلمانية وتوضيحا مبسطا لحقيقتها التي تعرضت وما زالت للتشويه.
العلماني قد يكون متدينا جدا لكنه يرى ايمانه يخصّه هو بصورة حميمة لا تخوله مدّ اي فرضيات على غيره فكل واحد يمكن ان يفهم الدين ويعرف الله ويترجم ايمانه بطريقته ووفقا لقناعاته الحرّة، وبهذا المعنى يمكن لكل شخص ان يقدم المثل والقدوة لغيره في الايمان وفي السلوك أي في العبادات وفي المعاملات، لكن لا يمسك العصا أبدا ليفرض على الآخرين قسرا رؤيته للدنيا والدين - على غرار مطاوعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحسبة في مناطق سيطرة القاعدة وداعش- وأسوأ من ذلك ان يستخدم السلطة العامّة، اي الدولة لهذه الغاية فالنتيجة في نهاية المطاف أن يكون الدين في خدمة السلطة وليس السلطة في خدمة الدين.
أن تكون الدولة علمانية لا يعني أن تكون ضد الدين والتدين بل تترك للجميع أفرادا ومؤسسات الممارسة الدينية الحرة دون تدخل أو وصاية او توجيه. وبالمقابل لا تسمح الدولة لأحد باستخدام الدين في الصراع السياسي والمنافسة على السلطة، أي تمنع الاستخدام الانتهازي للدين في المصالح السياسة العامّة فهذا يؤذي الدين ويؤذي الدولة وبهذا المعنى فالعلمانية صديقة وحامية للدين أكثر من الجماعات التي تستثمره للاستيلاء على السلطة والتحكم بالآخرين ، ولأن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة لا محالة، فسوف يتحمل الدين فساد السلطة التي تحكم بإسمه كما تحمّله الجماعات الارهابية اليوم الدم والدمار الرهيب في جهادها المزعوم.
الدين يقوم على المطلق واليقين الايماني ودخوله إلى النطاق السياسي يعني استخدامه لا محالة في الصراع على السلطة وتحويل كل ما هو نسبي ومؤقت الى مطلق ودائم أي احتكار السلطة والتفرد بها، ومن يحكم باسم الدين سيتهم كل آخر معارض بالانحراف عن صحيح الدين، انها حلقة مفرغة من الانقسامات التي تقمع المخالفين أولا بأول. والقوى الدينية المتطرفة لا تكفر العلمانية فقط بل الديمقراطية برمتها لأنها تريد لنفسها دكتاتورية مطلقة بادّعاء أنها القيّمة حصريا على اقامة شرع الله.
تحارب القوى الظلامية المتطرفة قكرة الديمقراطية ومن قبلها العلمانية كفكرتين دخيلتين من الغرب المعادي للإسلام، وبهذا المنطق فالإسلام نفسه في كل مكان خارج جزيرة العرب هو غريب ودخيل. لكن الحقيقة أن الأفكار الطيبة والصحيحة لا تتوقف أبدا في مكان نشأتها، والأديان والأفكار والعلوم بطبيعتها عابرة للحدود والأعراق والأزمان وإذ صادف أن الحضارة المعاصرة بدأت في الغرب فمن الطبيعي أن تنتشر منتجات هذه الحضارة الى كل مكان كما حدث مع كل الحضارات في كل الأزمان لتصبح ملكا عاما للبشرية. ولا يعني هذا أننا نجلب منجزات مثل الديمقراطية كقوالب جامدة فتطبيقاتها تتباين حتى في بلدان الغرب وتأخذ خصوصية محلية في كل بلد. والديمقراطية الآن منجز أنساني تأخذ تطبيقاته شكلا مختلفا وفق خصوصية كل شعب وكل بلد، والأمر نفسه ينطبق على العلمانية كنظرية سياسية والتي تصبح ضرورة قصوى على وجه الخصوص في البلدان التي تحوي تنوعا دينيا واسعا فلا خيار سوى تحييد السلطة دينيا لكي يتمكن الجميع من التعايش كمواطنين شركاء على قدم المساوة. ونكتشف الأمر نفسه ينطبق على بلدان تحوي تنوعا مذهبيا او طائفيا في نفس الدين مثل العراق، لكن في نهاية المطاف حتى في بلد لا يحوي هذا التنوع فان العلمانية تكون نظاما جيدا لتحييد الدين في الصراع بين المكونات الاجتماعية والسياسية المختلفة فلا مناص أنه سيتم تسييس الاجتهادات الدينية المتعددة في خدمة المنافسة على السلطة وفي نهاية المطاف سيحدث مزاد على التشدد في الدين حتى لو كان كل ناس على دين واحد ومذهب واحد، وسيذهب الأكثر تشددا لتكفير غيره. وقد رأينا كيف أن اقصى التشدد الذي مثلته القاعدة وإعمالها الارهابية وجد من يزاود عليه ويقفز فوقه مثل داعش التي وصلت بالوحشية والترهيب ما فاق الخيال.
يعرف كل مثقف منصف معنى العلمانية ومنطقها، والحكم الحديث في أي بلد في العالم يقوم على العلمانية والديمقراطية. لكن هذا أيضا معيار نسبي والعلمانية مثل الديمقراطية ليست شيئا نهائيا واحدا لا توصيفا ولا تطبيقا. والكثير من الأنظمة في العالم العربي والاسلامي تقف في منطقة قريبة، ليست علمانية ولا ديمقراطية تماما لكنها أقرب الى الدولة المدنية أي الدولة المحكومة الى الدستور والقوانين الوضعية ومفهوم المواطنة رغم انها تعلن في دساتيرها الاسلام دينا للدولة وترعى شؤون الدين والأوقاف والمساجد وتقيم المحاكم الشرعية لقضايا الأحوال المدنية. وليس ضروريا ان نطبق مفهوم العلمانية تماما كما هو في بلدان غربية في ضوء خصوصيتنا الوطنية والعربية والاسلامية، لكن ثمة ما ينبغي انجازه مثل علمنة التعليم واعادته كما كان قبل ان يتغول عليه النفوذ الاخواني والسلفي فيلغي نهجه التنويري وحياديته العلمية والتربوية وهذا هو موضوع الساعة الذي يدور حوله النقاش.
ان كتّاب السلفية الدينية السياسية لا ينفكون يهاجمون العلمانية لدرجة الترهيب بشيطنتها وربطها بالماسونية والإلحاد والمؤامرة على الإسلام ..الخ الخ وهذا كله افتراء. فهناك سياق تاريخي مفهوم ومعلوم لنشوء العلمانية في إطار الأنظمة السياسية العصرية، وقد حان الوقت لإعادة الاعتبار للفكرة التي تمثل انجازا حضاريا وتاريخيا للبشرية وهي تتقدم نحو الحرية والحداثة والاستقرار والديمقراطية وانتهاء زمن تخاطف السلطة بالقوة والحفاظ عليها بالعنف والإرهاب.
والحقيقة انه في تاريخ البشرية كلها قبل العصر الحديث كان يتم تخاطف السلطة وفرضها بالقوة على نطاق ضيق أو أوسع قد يشمل شعوبا أو قارات كما هو حال الامبراطوريات وآخرها العثمانية ولم يستند الحكم الى التفويض الشعبي الا في العصر الحديث مع استئثناءات محدودة وقصيرة هنا وهناك في التاريخ، وكل سلالة حاكمة ما كانت تدوم الا بالقوة حتى لو اكتسبت استقرارا طويلا وشرعية. والتاريخ الاسلامي لا يشذّ أبدا عن هذه القاعدة، منذ الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه وحتى نهاية الحكم العثماني وبروز الدولة الوطنية.
هذه هي القضية، العلاقة بين الدين والسلطة في عصرنا أو على نطاق أوسع بين الدين والسياسة في زمننا الراهن. ليست المشكلة مع الدين والتدين بل مع السلطة والتسلط واستخدام الدين لهذه الغاية، ونحن نعرف ان مجتمعاتنا متدينة واتساع التدين او انحساره مسار تاريخي اجتماعي لا يقرره ولا يتحكم فيه احد، ولا تناقض بين علمانية الدولة وتدين المجتمع لكن الجماعات الدينية المتطرفة عندنا تستعيذ بالله من هذا المنظور الذي يحرمها من أداتها ويسحب من تحتها البساط المفرود بإغراء شديد الى كرسي الحكم الموعود أكان على شكل خلافة مفترضة بطريقة العصور السالفة او اي شكل آخر سيتحقق عمليا ولن يكون سوى استبداد ودكتاتورية فاشلة تنتهي الى زوال لكن بعد ان يكون المجتمع قد دفع ثمنا مروعا، وهل نحتاج الى التنجيم مع النماذج المرعبة التي نراها بالجوار؟!
|